الثلاثاء، 20 ديسمبر 2022

حبل الوصال 17 بقلم الكاتب رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس

 حبل الوصال 17

بدت على أحمد وهو يتسلّم المحفظة من النّادل فرحة كبيرة لم تظهر عليه قبل هذه اللّحظة. وحتّى أثناء محادثته لأصحابه غلبت عليه روح المداعبة والنّكتة وهذا لا يمتّ بصلة لما دأب عليه في مجالستهم. فكأنّه تسلّم كنزا كبيرا سوف يحلّ به كلّ مشكلاته الماديّة أو ربّما تسلّم ما سوف يوصله إلى ذلك الكنز. وقد يكون ما في الحقيبة له شأن لا يعرف قيمته ووزنه غير أحمد فهو الّذي أودعها صديقه النّادل منذ سنين مضت ولم تغب عن تفكيره إلاّ عندما يفكّر في زينب. فهل لزينب صلة بمحتوى المحفظة؟ أم انّ أحمد جعل من علاقته بزينب حقيبة ثانية وجب عليه أن يحافظ عليها والأحرى أن يسترجعها ويدافع عليها؟ قرب موعد الأصدقاء مع المحامي فدفعوا ما عليهم للنّادل وغادروا بعد أن حيّوه تحيّة العائدين. في مقرّ " جمعيّة مناصري المضطهدين" كان المحامي قد خصّص مكانا للقاء أحمد وأصحابه وطلب عدم إزعاجه عندما يبدأ اجتماعه بهم. يدخل الأصدقاء فيرحّب بهم المحامي ويدعوهم إلى الجلوس حول طاولة أعدّها للغرض وكان عليها غطاء جميل وفوقها قوارير ماء وبعض الحلويّات ووقفت بجانب الطّاولة آنسة لتسألهم عمّا يريدون شربه من قهوة أو شاي او حتّى مشروبات غازيّة فالمحامي أرادها جلسة رسميّة وربّما عقد العزم على حسم موضوع الحقوق المسلوبة في هذه الجلسة فالنّاس في حاجة ملحّة لحقوقهم إذ سدّت أمامهم كلّ الأبواب. بدأ المحامي الجلسة بالتّرحيب بالحاضرين وكان جديّا كثيرا في حديثه. بعد التّرحيب، تناول المحامي الوضع العام في المدينة وخلص إلى أنّ من أكثر الأسباب الفاعلة في تردّي الأوضاع تلك هو سكوت النّاس وخوفهم من مواجهة واقعهم . ثمّ أكّد على أنّ الأوضاع سائرة نحو مزيد من التّردي إذا ما تواصل سكوت النّاس وانهزاميّتهم أمام ما يفعل السّراق والغاصبون. طلب الحاضرون التّدخل فتفاعل معهم المحامي بالرّدّ على كلّ منهم أو بالثّناء عليه وعلى ما أفادوا به. أحمد كان مستهلكا ومستمعا إلى أن أتمّ الحاضرون تدخلاّتهم. عندها طلب الحديث واستسمح من الحضور أن يأخذ وقتا طويلا وأن يكون كلامه صريحا . ذكر أنّ المدينة عانت وتعاني من أهلها قبل الأغراب وأنّ ما هي فيه راجع إلى تصرّفات أهلها قبل تصرٍفات الأغراب. وأوضح رأيه وأيّده بتقديم أمثلة عن تلك التّصرّفات وخاصّة سلب النّاس منازلهم وممتلكاتهم والأغرب من ذلك تستّر الإدارات والمؤسّسات عن هذه السّرقات ممّا دلّ حسب رأيه على أنّ المسألة ليست مجرّد عصابة محدودة الأفراد بل ربّما أعمق من ذلك فهو يرى أنّ وراء هذه الممارسات ماعة منظّمة او هو تنظيم كامل تسلّل إلى جميع مفاصل المدينة ليركّعها لصالحه. ثمّ أخذ أحمد وثائق من محفظته ودون أن يطّلع على محتوياتها بدقّة سلّمها إلى المحامي. أحمد عندما قدّم الوثائق قرأ العناوين فقط ، لكنّ القراءة المعمّقة لتلك الأوراق قد تفيد أوتفضي إلى ما هو أبعد ممّا قد توحي به عناوينها. وواصل أحمد تدخّله ولأنّه لم يراجع ما في المحفظة كان كلّما أخذ دفترا يقرأ العنوان ثمّ يدلي به للمحامي. المحامي سرّه ما بين يديه واعتبر أنّ هذه الجلسة بمثابة فرصة العمر له وللجمعيّة ولأصحاب الحقّ فيما حوته الوثائق. أحسّ أصدقاء أحمد أنّهم مستثنون من هذه الجلسة طالما أنّ الوثائق كانت بين صديقهم والمحامي فقط وأنّهم مجرّد ديكورا زيّنت بهم الجلسة فنظروا إلى بعضهم البعض متسائلين متغامزين فقد يزجّ بهم في مسائل هم في غنى عنها رغم ثقتهم المفرطة في صديق عمرهم. لهذا السّبب وحتّى لا يظلمون ولا يظلمون طالب أحدهم ان يقع اطلاعهم على تلك الوثائق فقد تعلّموا أن يكونوا أحرارا وأن يطالبوا بحقوقهم. لم ترق الفكرة لا لأحمد ولا للمحامي في بداية الأمر ولكن عندما تدخّل صديق آخر لأحمد وبيّن وجهة نظرهم في هذا المطلب سلّمهم المحامي الوثائق وراحوا يتأمّلون فيها ويتعمّقون في كلّ كبيرة وصغيرة . فجاة التفت أحدهم إلى أحمد وقال: " هل اطلعت جيّدا على كلّ الوثائق؟" فأجابه أحمد أنّه قرأ العناوين الواردة على كلّ ملفّ لكنّه سأل صديقه ما الدّاعي لسؤاله. الوثائق رغم أنّها مدرجة كلّها بنفس الملفّ إلاّ أنّها تختلف في أسماء أصحابها وأحمد تردّد اسمه أكثر من مرّة وهذا يعني أنّ ما سلب منه ليس بيتا فقط. اندهش أحمد كثيرا وهو الّذي احتفظ بالملفّ الّذي يثبت ملكيّته للبيت ليدلي به للمحامي وربّما أيضا ليكون موضوعا ثنائيّا بينه وبين المحامي حتّى يكون فرصة لمفاتحته في قصّته مع زينب . وعدا ما بيّنته الوثائق من امتلاك احمد عديد المحلاّت وعمارة فخمة فقد أثبتت أيضا أنّ له عائلة وهذه العائلة كبيرة ومعروفة في المدينة. بقي أحمد مندهشا ممّا قاله صديقه فطلب من المحامي بكلّ لطف أن يسترجع الوثائق فهو قدّمها له للاطّلاع فقط حسب ادعائه. ماكان من المحامي إلاّ أن وافق ولكنّه طلب أن يأخذ نسخة من هذه الملفّاة فهي تساوي سلاحه في قضيّته وقضيّة الجمعيّة الّتي بنتمي إليها. غاب لينسخ الملفاة على آلة الطباعة التي في مكتب الجمعيّة. أثناء ذلك واصل الأصدقاء حديثهم ولكن بصوت لا يسمعه إلاّهم..فقال أحدهم لأحمد : " هل جننت؟ تسلّم أوراقا كهذه وهي مصيرك ومصيرنا جميعا وهي أيضا مصير كلّ المدينة؟" اعتذر أحمد لسوء تقديره ولسوء تقييمه لما كان بين يديه وشكر أصدقاءه لأنّهم نبّهوه لخطإ جسيم كاد يقع فيه و قال أنّ المهمّ هو أنّهم تداركوا الموقف بالرّغم من أنّهم لا يخوّنون المحامي لكنّ الحيطة واجبة كما قالوا. ثمّ اتّفق الأصدقاء على حسم أمرهم مع المحامي خلال جلسهتهم هذه ورفع قضيّة جماعيّة حتّى تأخذ صدى قويّا ولأنّ بعض الوثائق جمعت بينهم أو بين بعضهم.
عاد المحامي بعد حوالي نصف ساعة وأعطى أحمد الملف الأصلي واحتفظ بنسخة منه. ثمّ أفاد الحاضرين أنّ هذه الوثائق ستكون بمثابة سلاح مهمّ في محاربة السّراق والمضطهدين ودعم كبير لهم لدى المحكمة إبّان رفع القضيّة وهذا سيكون في أقرب الآجال. عند ذلك تدخّل أحد الحاضرين مقدّما اقتراحا على إثره سيفهم أحمد وأصدقاؤه ما لهم وما عليهم. اقتراح هذا الصّديق مفاده أن يطّلع المحامي على الوثائق خلال جلستهم هذه فربّما هناك اجراءات يجب اتخاذها قبل رفع القضيّة ومن ثمّة يعرف كلّ واحد ما له وما عليه. وافق المحامي على هذا الاقتراح لكنّه طلب فسحة من الزّمن ليتمكّن من أخذ فكرة ولو عامّة حول مجمل معطيات الدّفاتر. أثناء انشغال المحامي بالتّدقيق في ما بين يديه، أخذ الأصدقاء هم أيضا نصيبا من الوثائق ليدقّقوا فيها حسب مقدرتهم المعرفيّة ومستواهم العلمي. لكنّهم من حين لآخر كانوا يسمعون لتأفّف وزفير يصدره المحامي فاستغربوا لكنّهم لم يحرّكوا ساكنا فقد تكون تلك طريقته في دراسة قضاياه كما يمكن أن يكون ذلك من صميم تفكيره بصوت عال أو لعلّه كان يسترجع بعض الأوامر والفصول القانونيّة المرتبطة بالقضايا الّتي بين يديه. الحقيقة أبعد من ذلك بكثير فقد اكتشف من خلال الدفاتر ما يدين أخويه وأباه في عدّة قضايا وبات المحامي بين المطرقة والسّندان. والأمر ليس صعبا عليه هو فقط بل على زملائه وأعضاء الجمعيّة أيضا
رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق