الأحد، 20 مارس 2022

التأمت اليوم السبت 19 مارس بخيمة اللقاءات الأدبية بشارع الحبيب بورقيبة تونس العاصمة، أمسية أدبية مشتركة بين المكتبة الجهوية بتونس والوجدان الثقافية

أمسية أدبية مشتركة

السبت 19 مارس 2022

 

تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية ، تنظم المندوبية الجهوية للثقافة بولاية تونس بالاشتراك مع المكتبة الجهوية بتونس وإتحاد الناشرين التونسيين ومركز تونس للكتاب،

 تظاهرة "تونس مدن الآداب والكتاب”

 بشارع الحبيب بورقيبة من 11 إلى 31 مارس 2022. بمساهمة المكتبات العمومية بولاية تونس

التأمت اليوم السبت 19 مارس بخيمة اللقاءات الأدبية بشارع الحبيب بورقيبة تونس العاصمة، أمسية أدبية مشتركة بين المكتبة الجهوية بتونس والوجدان الثقافية
انطلقت الأمسية على الساعة 14:30 بكلمة الافتتاح التي كان محورها
الترحيب بالضيوف والمشاركين من طرف الشاعر طاهر مشي
والأستاذة عفوى الأنقليز
والأستاذة جميلة بلطي عطوي التي قدمت لنا خلال الفقرة الأولى مداخلة حول الإحتفاء بالمرأة التونسية والعربية عامة مررت على اثرها الكلمة للدكتور حمد الحاجي الذي قدم كلمة شافية كافية تخص مكانة المرأة العربية وهي فقرة خصصناها للتعريف بدور المرأة في بناء المجتمع و اعترافا لها بالجميل وما وصلت إليه من مكانة مرموقة في المجتمعات والإنجازات المشرفة.
وقبل بداية الفقرة الثانية المخصصة للقراءات الشعرية، أطربنا الأستاذ عازف الناي رشيد بن جوهرة بمقطوعة بديعة أمتعت الحضور ليواصل مرافقتنا طيلة الفقرة الثانية وحناجر الشعراء الذين شرفونا اليوم بحضورهم وقد استمتع الجميع بما جادت به القرائح من إبداع،
قراءات شعرية لثلة من الشعراء.
الأديبة جميلة بلطي عطوي
الشاعرة سميرة بنصر
الأديبة فائزة بن مسعود
الشاعرة بسمة درويش
الشاعرة منجية حاجي
الشاعرة سوسن العوني
الشاعرة هدى ولهازي
الشاعرة رتيبة سليم
الشاعرة روضة بوسليمي
الشاعرة محجوبة بن حميدة
الشاعر حمدان حمودة لوصيف
الشاعر محمد علولو
الشاعر معمر ماجري
الشاعر توفيق الحجلاوي
الشاعر عبد الرزاق بن وصيف
الشاعر طاهر مشي
الشاعرة نعيمة مناعي
الشاعرة هالة العويني
الشاعر حبيب بن مبارك

وبهذه المناسية اقدم شكري الوفير للأستاذة عفوى الأنقليز مديرة المكتبة الجهوية بتونس على رعاية الوجدان والشعراء والكتاب،
أقدم شكري لكل الطاقم العامل معها الذي ساهم في إنجاح هذه الأمسية
كما أتقدم بالشكر للأديبة جميلة بلطي عطوي المستشار الأدبي للوجدان الثقافية على عنايتها ورعايتها الدائمة لأقلام الوجدان والمساهمة الفعالة في إنجاح هذه التظاهرة
أقدم شكري للشاعرة المتميزة سميرة بنصر رئيس جمعية زهرة الشمال، التي شاركتنا تنشيط الأمسية وساهمت في انجاحها
أقدم شكري أيضا للشاعرة المتميزة هدى ولهازي على التغطية الاعلامية والتصوير والمساهمة الفعالة في إنجاح هذه الأمسية الرائعة.
كما أقدم شكري الوفير لكل من تكبد عناء السفر من الكاف والقيروان وتاجروين والمنستير ومن كل تراب الجمهورية
وشكرا لكل العائلات الذين آنسونا بحضورهم .

وشكرا لكل من حضر وكل من لم يحضر
تحياتي وتقديري للجميع
طاهر مشيي

 




















































































































































































































































































































السبت، 19 مارس 2022

قراءة فنية في قصيدة” ابنة الصبر” للشاعرة التونسية المتميزة جميلة بلطي عطوي بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 قراءة فنية في قصيدة” ابنة الصبر” للشاعرة التونسية المتميزة جميلة بلطي عطوي

تصدير : "الشعراء شموع الأدب.والشمعة رمز التضحية فهي تحترق من أجل إنارة طريق الآخرين.والشبه بين الاثنين واضح لايحتاج تفسير"
“القصيدة تكتب شاعرها” موريس بلانشو-
لم يعد يكفي أن تقول عن بيت من الشعر أو قصيدة أنها خفقة قلب أو دفقة شعورية كما كان يحلو لمن جعلوا الشعر من قبيل الوجدان المحض ولا شيء غير هذا ، وقاسوا قيمة القصيدة بما تحتويه من وجدان صاحبها ، وكان هذا القول في حينه ثورة على كلاسيكية شوقي وحافظ على أنه - أي هذا الرأي - لم يكن نبتا عربيا خالصا وإنما اتبعوا فيه المدرسة الإنجليزية في النقد إبان الربع الأول من القرن العشرين ثم أحدثت المدرسة النقدية الفرنسية ثورة نقدية على يد " كلود ليفي شتراوس " مذ أصدر كتابه الفذ " المدارات الحزينة " سنة 1955م متأثرا بنظرية " دي سوسير " في اللغة حيث جعلها نسقا قائما وحده مبرزا ثنائية الدال والمدلول. .ولم يقدر لهذه المدرسة الاستمرار في فرنسا إذ ماتت بالسكتة سنة 1968م وإن انتقلت إلى بلادنا العربية في العام التالي لموتها او قبل ذلك بقليل - لست أذكر بالضبط فأنا أكتب من الذاكرة - غير أني أذكر أن مقالا للأستاذ / محمود أمين العالم هو الذي ابتعثها من مرقدها ،وقوبلت بما يقابل به كل جديد وإن كان هذا الجديد في بقعة أخرى من بقاع الأرض جيفة لا أكثر ..
أقول : لم يعد مقبولا ان نقول عن قصيدة أنها نفثة مصدور أو خفقة قلب ولا شيء غير هذا خاصة إذا كنت أمام نص للشاعرة التونسية القديرة جميلة بلطي عطوي والتي تصل-في بعض قصائدها (وهذا الرأي يخصني) -إلى كنه الأشياء وحقائقها المجردة أو قل تصل إلى العلاقة بين الأشياء وقوانينها الجامعة وهذا غير كائن لغير الشعراء الكبار كجيتة وأليوت وطاغور وغيرهم من الكبار الذين يحلقون في فلك الفن الأعلى ..
في قصائدها بوح ناي وأنين وتر،يصدران نغماً واحداً يحمل نبضاً شعورياً شديد التشابه ، يفيض من الجوانح نرجساً..
هي شاعرة من طراز خاص أسهمت في رفد الساحة الشعرية التونسية بإنتاجها الأدبي المميز، رائعة بكل ما تعنيه الكلمة،تجعل نبضات قلبك تخفق خاصة في قصائدها الوجدانية،قديرة ومتمكنة وهى تعزف تابلوهات فنية راقية في مشاهدها الفنية ،بكل تميز وألق،وبنكهة خاصة تلامس آمالنا وآلامنا .
من خلال قراءة قصائد الشاعرة التونسيةالسامقة جميلة بلطي عطوي،يُلاحَظُ أنها تؤمن أن الشاعر روح الأمة ،”وأن مهمته في أرضه ووطنه،أن يزرع بين أحشائها بذور الأمل،حتى إذا سمت داخله وصارت ظلالها وارفة ،أفاض بها على المجتمع،وهذا لا يتوفر إلا بالنص الجيد ، الذي يتصف بتقنيات الشعر الرفيعة “،فالشاعرة تعمل على تطوير آليات نصوصها،ماهرة في اقتناص الفكرة والصورة،وَتَعَدُدِ طرق التعبير والتخيل،التي تميز الشاعر المتفوق عن غيره .
نتابع معا:
ابنة الصّبر
مذ ألف توق
أهمس للرّيح
فكّي جدائلي
لاعبيها كموج البحر
فقد مللتُ سجوني
أنا ابنة الصّبر
من الضّيم ابيضت عيناه
هاتي قميص يوسف
أسعفيني
يا هاوية المسافات
انشري صيحتي
املئي الكون منّي
صوت ربابة
لا تدعي النّاي يردّد وجعي
اكسري جدار الصّمت حولي
عُبّي هطل الضّياء
دثّريني
أنا المحشورة في كهف الصّقيع
على بابه كتبوا
هنا الموؤدة
لا تدعوا الشمس تنير ظلامها
دعوها للخفافيش
تنهش لحمها
إنها إن عانقت الضوء تمرّدت
كالطوفان تغزو سهول الأرض
تتسلق جبالها ورباها
حاصِروها كي لا تصابوا بعلّة
هي ناقصة عقل ودين
فاحذروا استهتارها وبلاها
انا المقموعة
كأهل الكهف ما اقترفت جريرة
ذنبي أنّ الرّحمان أجلّني
فبتّ سكنا
فيّ الحياة تورق كالفصول
ربيعها منّي
والوردة منّي شذاها
أنا الأنثى صنو الطّبيعة
بألف لون ولون
وبذلي مثلها لا يضاهى
كمّموا فمي ما قدرتم
ابتروا منّي السّاعد والسّاق
سينبت لي الف ساعد
بل الف ساق
أنا مهرة الزّمان
تهواني القصيدة
تدندن بي القوافي مذ كان الشعر
حوّاء أنا
نصفكم الأجمل لو علمتم
سأظلّ رغم الضّيم كالعنقاء أولد
كلّ وأد
ولن تحدّوا مداي
فأنا المريدة.
تونس....10 / 3 / 2022
جميلة بلطي عطوي
تنطلق اللغة الشعرية في هذه القصيدة للتعبير عما يُفتعل في النفس من انفعالات،فنجد الذات الشاعرة تُملي على نفسها بعضا من مجازات دلالية متخطية اللغة المعجمية رغم مباشرة الحوار، وتظل لغة السهل الممتنع هي اللغة المهيمنة على النص الموسوم بـ”إبنة الصبر”. حين قراءتنا لهذا النص نلاحظ تصاعد المحتوى الشعري بقدرة الإحالة إلى ما هو أرحب شعرية وأكثر دفقًا في السياق الرمزي. أول ما نقرأ “العنوان” بوصفه أول مفتاح إجرائي يمنح المتلقي اختراق مغالق النص، إذ يمثل “علاقة دالة تكثّف البنية الكلية””1” للنص، تظل دلالته أعلى سلطة نصية باذخة الحضور.
ولأن لغة الشعر تتجاوز العزلة لترتمي في أحضان المشاركة، فإن الذات الشاعرة تمنح المتلقي مشاركتها بوحا يختلج النفس بعمق يؤثت لمشاهدة تصويرية آنية حينا واسترجاعية حينا آخر، ويشيد حوارا روحيا يتجلى في عالم خاص تُشخّص فيه القصيدة لتكون هي المخاطَبة الحاضرة وحوارها هو المهيمن على النص.
من الجدير –في هذه القراءة المتعجلة-أن نتبيّن معالم البنية الصوتية للتشكيل اللغوي في هذه القصيدة في محاولة لربط هذه المعالم بما لها من دور في إنجاز التجربة،وفي تحقيق قدرتها التأثيرية،فالملامح الصوتية التي تحدّد الشعر قادرة على بناء طبقة جمالية مستقلة (1)،والبنية الصوتية للشعر ليست بنية تزينية،تضيف بعضا من الإيقاع،أو الوزن إلى الخطاب النثري ليتشكّل من هذا الخليط قصيدة من الشعر،بل هي بنية مضادة لمفهوم البناء الصوتي في الخطاب النثري،تنفر منه،وتبتعد عنه بمقدار تباعد غايات كل منهما،وهذا يعني أنّ إرتباط الشعر بالموسيقى إرتباط تلاحمي عضوي موظّف،فبالأصوات يستطيع الشاعر أن يبدع جوّا موسيقيا خاصا يشيع دلالة معينة،واللافت أنّ هذه الآلية الصوتية غدت في نظر النقاد مرتكزا من مرتكزات الخطاب في الشعر العربي الحديث،وهذا المرتكز يقوم على معنى القصيدة الذي غالبا ما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر ما يثيره بناء الكلمات كمعان(2).
لقد ستطاعت الشاعرة-جميلة بلطي عطوي-ومنذ بواكير قصائدها الأولى أن تحقق معطيات وخصائص أسلوبية من الفنون الحكائية والحوارية والسردية والدرامية،في شعرها كمظهر من مظاهر الشاعر الحداثي في الإبتعاد عن المرتكزات الغنائية في القصيدة،والإتجاه نحو التكوينات الموضوعية التي تحصر شعرية النص فيما تمثله من إطار فني أومضمون كلي في سياق من الإدراك الجديد لبنية القصيدة وهندستها،وتماسك وحداتها الشعرية والدلالية والإيحائية التي تفضي إلى فاعلية هذه المعطيات والخصائص التي إستخدمها الشاعر العربي المعاصر،وأفادت منها في شد نسيج تجربتها الشعرية وتكثيفها وتعميقها بالمواقف المتضادة والرؤى المتصارعة التي تتغلغل داخل فضاء القصيدة الكلي من خلال إثرائها بأساليب تعبيرية جديدة تستقيها من الفنون والأنواع النثرية المجاورة،والجميلة الأخرى ومن أهمها (القص والمسرح والدراما) فالقاص أو الدرامي عموما،يعرف بما يتملكه قدرات النقطة التي يدلف منها إلى موضوعه أوالحدث الذي يتحتم ألا يسبقه شيء..
على سبيل الخاتمة:
قد لا أبالغ إذا قلت أنّي لست من الذين يتناولون القصائد الشعرية بأنامل الرّحمة ويفتحون أقلامهم أبواقا لمناصرة كلّ من ادّعى كتابة الشعر،إلاّ أنّي وجدت نفسي في تناغم خلاّق مع هذه القصيدة التي فيها كثير من التعبيرية وقليل من المباشرة والتجريد تغري متلقيها بجسور التواصل معها،مما يشجع على المزيد من التفاعل،ومعاودة القراءة والقول،فكان ما كان في هذه الصفحات من مقاربة سعت إلى الكشف عن بعض جماليات هذه القصيدة مربوطة بالبنية اللغوية التي عبّرت عنها..
وإذن؟
تناوبت إذا في هذه القصيدة السردية التعبيرية للشاعرة التونسية السامقة جميلة بلطي عطوي
لغة التجريد واللغة التعبيرية والسرد المشحون بالزخم الشعوري،وبلغة قاموسية بألفاظ تعكس ما في روح الشاعرة وما في روح القصيدة،فخلقت لنا بذلك صوراً حيّة برّاقة وببوح عميق.
وأخيرا أتمنى مزيدًا من العطاء والإبداع والتألق المتواصل لهذه الشاعرة التونسية المتميزة
ختاما أقول :"ابنة الصّبر" قصيدة فلسفية في المقام الأول وفريدة في عالم القصائد بل أدعي أنها - أي القصيدة - كافية للولوج بكاتبتها إلى مدارات الفن العليا رافعة الرأس على أن للقصيدة مدارات أخرى لم أتناول منها شيئا إذ لكل مقام مقال وأنا في مقام الإشارة لجودة نص وتفرد ناصة في دنيا القصيد .
محمد المحسن
الهوامش :
1-اللغة العليا ص:116جون كوبن.ترجمة أحمد درويش.ط2 القاهرة 2000
2-البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ص:38-ط-الإسكندرية 19903-اللغة العليا-ذُكٍر سابقا-ص:74

أمّي والخالة زهرة ومُعالجة مِنسج السَّدى بقلم د. زهرة سعدلاّوي كحولي

 أمّي والخالة زهرة ومُعالجة مِنسج السَّدى

 

    كنت أستفيق وعلى مدى ثلاثة أسابيع أو تزيد خلال أواخر العطلة الصيفيّة على صوت الخالة زهرة التي تدلف إلى بهو بيتنا لتعترضها أمّي فترحّب بها وتدعوها إلى شرب كأس من الحليب، مع حفنة من تمر"العليق" اللّذيذ، ثم تقدّم لها الشاي، لأنّها كانت تدرك أنّ تلك العجوز الحديديّة لا بد وأن تشرب الشّاي قبل الشّروع في العمل، لأنّه يبعث فيها الطاقة ، ويُجدّد نشاطها لاستقبال يوم جديد، كانت الخالة  زهرة تفرح بما يُقدّم لها خصوصا وأنّ كأس الشّاي يأتيها كما تشاء، وما يبرّر رضاها أنّه صُّبّ في ذلك الكأس "المجيدي" الصغير وحسب الكميّة التي تشتهيها، رشفة، أو رشفتان معدّلتان من حيث ميزان السّكر.

    تتخطّى الخالة "زهرة" بهو الغرفة لتمرّ إلى عمقها حيث تنتصب السدّاية، فتتخذ مكانها على يسار أمّي وتشرع في مواصلة النسج. كنت أقف عند العتبة ولم أكن أتجاوز بعد الرّابعة عشر من عمري وأنا أتأمل ذلك السّدى المُعلّق بين خشبتين والمشدود من الجانبين بقائمتين خشبيتين أيضا تُمسكان الآلة وتُثبّتانها. كان يشدّ انتباهي تشابك السّدى  الذي تفصل بين أعلاه وأسفله قصبةٌ غليظة ومجموعةٌ من الأعمدة الأخرى والخيوط الغليظة.

    وكانت الخالة "زهرة" تواصل إدخال خيوط الصّوف الناصع البياض، رطب الملمس، باليد اليمنى، وتمسك بــ"الرطّاب" باليد اليسرى، تترك الخيط معلّقا ما بين خيوط السّدى ثم تنزله، وتسويه، وبعد أن تكون قد أنزلت تلك القصبة لتعدّل بها تماسك الخيوط تماسكا جيدا يضيف إلى المساحة المنسوجة دقة وجمالا... وكانت تفصل بين المساحة المنسوجة بعرض الأربعين سنتمترا بخيوط رقيقة رطبة من اللون الأخضر الفستقي، واللون الوردي الداكن قليلا تنسجها بحجم ثلاثة أصابع، ثم تنهيه بنفس اللّون الأسود الذي كانت قد بدأت به مجموعة خيوطها التي تفصل رحلة من العمل تمتد على يومين.وكانت إمّا أن تلتقي بنفس المساحة، أو تُسْدِل لها مجموعة الخيوط المنسوجة حتى تُلحقها فيما بعد بما تمّ نسْجه.

    كنت أقف عند العتبة، ثم قليلا قليلا أتمكّن من الجلوس قبالتهما أتابع بانتباه ذلك العود الخشبي الأملس الذي يُسمّى في لغة النَّسّاجات بــ"الرّطّاب"  وقد أمسكت به اليدُ اليسرى وتثبته على امتداد المساحة التي تشتغل عليها.

    تلتقط يدُ النّاسِجة الجالسة على اليمين فتواصل نسْج الخيوط النّاعمة وتعمل على تثبيتها بكلّ عناية وجماليّة، وبعد التقدّم في مدّ الخيوط، صعودا ونُزُولاً  يَأتي دور "الخلالة" فتشرع الواحدة مِنْهما في تنزيل الخيُوط المنْسُوجَة وجعْلها متماسكة ومحكمة النسج، وكان صوت الدقّ، والضرب، يمتزجان فيحدثان لحنا مُوسيقيًّا مُنفردا، يبعث رسالة نبيلة بأنّ النّسْج والنّسِيج، السّدي والسّدْى عمليّة إبداعيّة بامتياز.. كانت أمّي تأخذ حكّة حلوى الشّامية الصّغيرة فتثقب كامل سطحها، وتعيد غلقها وتستعينُ بها لتجْعلَ من الفضاء المَنسُوجِ رطْبًا ناعما. وما إن  تُكمل العمليّة من الدّاخل حتى أنقضّ على الحكّة كي أشرع في ترطيب المساحة من الخارج. كنت ألحّ على أمّي وأطلب الإذن من الخالة "زهرة" لتتركا لي مُهمِّة إعادة مَشْط المساحة المَنسوجة وجعلها ناعمة تشبه الشّعر الأرطبَ الذي كنّا ونحن صغارا نحرص على الاعتناء به ليتهدّل على أكتافنا ناعما كملمس الحرير. كانت الخالة "زهرة" توافق على إنجاز تلك المُهمّة على مضض لأنّها كانت تخاف أن تطُول يدِي السّدَى فأمَزقه وقد يُكلّفها ذلك وقتا ضائعا في عقد الخيوط بعضها ببعض. لم يكن هذا الامتعاض ليصُدّني عن رغبتي في تقليدهِما في تشبيك خيوط الصّوف الجيّد غزلها، والرّطب ملمسُها.

    كان القادم إلى تلك الغرفة التي يُفتح بابُها على بهو بيتنا الواسع الأرجاء يهتزّ  لصوت الرّطّاب وهو بين يدي المرأتين يُحدث دقّاتٍ رقيقةً، ثم يأتي صوت الخلالة وقد وضعت أمّي في أسفل مقبضها خمسة فضية ليد فاطمة، وقد يكون ذلك اعتقادا منها لحماية منسَجها من العين الحاسدة، تظلّ دَقات الخلالة مُتتالية، وقد امتزجت برنين الرطّاب   وكأنّه لحن موسيقيّ منفرد في عالم النّسيج البديع.

ما إن يأتي المساء وتغادر الخالة زهرة مكانها حتى أدْلف إلى ما وراء السدّاية لأشرع في النّسج وتمديد الخيوط وتثبيتها، ثم ضربها بالخلالة كي أقوّي النّسْج، وأحسن العمل فلا تغضب الخالة "زهرة"،  ولا توبّخني أمّي.

كنت أحسّ بفرح شديد عندما تُعانِق خيوطُ نسجي خيوطَ الجانب الذي هو على ذمة والدتي فتتلقفها منّي وتسوِّيها وتُقرِنُها بمسَاحة النّسْجِ أمَامَها.

    كانت أمّي تعينني على أن أتقن عمليّة النّسج لأنّها كانت تعاني بصمْت من بطْء عمل الخالة زهرة، وقلة تمكّنها من دقّة العمل لقصر كانت تعانيه في نظرها.

    كانت الخالة "زهرة" أحيانا تنتبه إلى أنّ أحدهم جلس مكانها وجعل النّسيجَ مُتداخِلا وتشرَع في اقتلاع عديد الخُيوطِ لأنّها غيرُ مُتمَاسِكة. وفي غالب الأحيان كنت أحذق النّسج مكانها فلا تنتبه إلى أخطاء نسجيّة  قد أكون قمت بها، وتُواصل عمَلها برضًى واطمئنانٍ ظنًّا منها أنّ أمّي هي التي سهرت ليلا لتتقدّم بالعمل أشواطا، وبعد لأيٍ تعلو المساحة المنسوجة في شموخ العمل وإتقانه، عندها تشْرَعانِ في طيّ المساحة إلى الأسفل وتبدَءَان  إنجازا جَديدًا رائِعًا.

     كانت أمّي ومُعينتُها تبتَهِجَان كثيرا عندما تخفّ خيوط القيام"المنسُوجة، والتي كانت  مُكوّمة في أعلى السدّايًة، ويكون قد انتهى نسجا وطُوي على الخشبة من أسفل أنموذج عباءة الشمال الغربي المُميّزة. وما هي إلاَّ بضعة أيّام حتَّى تتهيّأ المرأتان لفكّ أعْمدَة السدّاية، وفصلها عن بقيّة الخيوط التي لازالت تربط أعلى السدّاية بأسفلها. بعد ذلك  تفرشان في بهْو المنزل غطاء قديما وتشرعان في فتح النّسيج الذي طُوِي على الخَشبَة السّفليّة المسمّاة في لغتهما بــ"القايمَة"، ولعلّ تلك التّسْميَة تعود إلى الدَّوْرِ الذي تلعبه الخشبة السّفلى والعليا وما علق بهما من عمودين كالذراعين يُمسكان الأسفل بالأعلى، ويحافظان على قوّة الانتصاب وصموده.

يعتبر ذلك اليومُ الذي تنهي فيه أمّي نسْج  عباءتها، بل لنقل تحفتها التي جمعت بين الإبداع والإتقان. ويعتبر الحَدث بمجمله عند أمّي مُميّزا، فكانت تستدعي خالتي لحضور حفلة إنَّهَاء السّدى وحلّ النّسيج المكوّم على الخشبة السُّفليّة ونشرها على حبل في فناء البيت لتنقيته من بقيّة الشوائب، وكانت تنادي ابن عمّ لها لقياس الطّول والعرض، لأنّ ذراع الرّجل قريب من قياس المتر.

    تقدّم لقريبها شايا باللّوز وتدْعوه إلى العشاء ليلا، فيعتذر عن الحضور، وتأبى أمّي إلاّ أن تبعث له العشاء إلى حدّ بيته، كما تبعث كذلك صحنا من الكسكسي وقطعا من الطّاجين إلى بيت جدّي الطّاعن في السنّ والذي كانت ترغب في نيل رضاه.وتؤمن بصدق النيّة في أنّ دعاءه مُستجاب ، وبعد لأي كانت أمّي تكلّفني بأن أكتب رسالة إلى والدي الذي يشتغل على مسافة قريبة من العاصمة لأخبره أنّها أكملت مِنْسجَها وسوف تشرع قريبا في نسج قشّابيّة له كما تسمّى في الشّمال.

    تهيِّء أمّي احتفالا بتلك المُناسبة طعاما لذيذا، فتذبح ديكا سمينا وتطبخ كسكسا بصدر وفخذي الدّيك. وكانت تهيّئ إلى جانب ذلك طاجينا يسمى في الشّمال "طاجين بونارين" ممْزوجا بالبيض الطّازج وتدهنه بزبدة زكية الرّائحة، وهكذا تقام في بيتنا مأدبة عشاء، تجتمع حول المائدة أمّي وخالتي، والخالة زهرة وزوجة عمّي كانت تأتي أحيانا لتساعد أمّي، وكان معروف عنها إتقانها لهذا العمل.

   كانت الخالة "زهرة" ما تنفك تُحدّث الجميعَ عن المجهود الجبّار الذي بذلتاه لإتمام تلك العباءة الرّطبة والشّديدة البياض، والتي تزيد في بهائها تلك الخطوط السّوداء والفستقية والورديّة، مِمّا يُضفي على هندستها جمالا وروعة.

    تمتد العطلة الصيفيّة إلى مُوفى مُنتصف شهر سبتمبر، وابتداء من أوائل شهر أوت كنت أشرع في تحضير مُستلزمات الالتحاق بالمعهد، وكانت الإقامة في المبيت تُكَلفني تحضيرات خاصّة، وإضافيّة، فلقد كنت وصديقاتي نتّفق على شراء مئزر ذي لون موحّد وهو اللون السّماويّ الفاتح، كما كنّا نتّتفق على توحيد لون غطاء السّرير.

    انشغلتُ بالدّراسة، ولم أعُد أجِد وقتا لمتابعة ما تفعله أمّي، وكانت هي أيضا تريدني أن أتفرّغ خلال العطلة الصيفيّة للمطالعة ومراجعة بعض المسائل.

وذات يوم من أيّام العطلة الصيفيّة خطرت ببالي  صورة الخالة "زهرة" فسألت أمّي عن أخبارها، فردّت عليّ  وفي صوتها نبرة من الحزن والأسَف قائلة:" رحم الله مُعينتي وصديقتي، لم يَمُرّ على موتها سوى بضعة أشهر، ففي السّنة الماضية تُوفِّي زوجها فحزنت كثيرا على موته. ومع  الأيّام رغبت عن الأكل ولم تعد تخرج من بيتها. حاوَلت معها ابنتها ولكنّها عجَزت عن أن تعِيد إليها رَوْنقها، فزارتني ذات يوم وأسَرَّت لي بأنّ حالة والدتها تسْتاء مع الأيَّام خصوصا منذ أن تُوفِّي زوْجها،  فذهبتُ لزيارتها علّني أبعث فيها شيئا من الأمَل معه تقبل فراق زوجها. وما راعني إلاّ وهي ترفض كلامي ولا تقبل الإصْغاء إليه، وحاولت معها أن تنتقل لتعيش في بيت ابنتها القريب منها، فتعلَّلت بحجج واهية، إلا أنّها لم تمْض بعض الأيّام حتى وجدتها ابنتُها تُعاني من حرارة مُرتفعة وكانت تَتقيّءُ، حاولت تقديم بعض الإسْعَافات الأوّليّة لها إلا أنّها سرعان ما فارقت الحياة.

لقد عاشت بشَرف وماتت بشَرف... رحمها الله.

 

انتهت د. زهرة سعدلاّوي كحولي 24 فيفري 2021