أمّي والخالة زهرة ومُعالجة مِنسج السَّدى
كنت أستفيق
وعلى مدى ثلاثة أسابيع أو تزيد خلال أواخر العطلة الصيفيّة على صوت الخالة زهرة
التي تدلف إلى بهو بيتنا لتعترضها أمّي فترحّب بها وتدعوها إلى شرب كأس من الحليب،
مع حفنة من تمر"العليق" اللّذيذ، ثم تقدّم لها الشاي، لأنّها كانت تدرك
أنّ تلك العجوز الحديديّة لا بد وأن تشرب الشّاي قبل الشّروع في العمل، لأنّه يبعث
فيها الطاقة ، ويُجدّد نشاطها لاستقبال يوم جديد، كانت الخالة زهرة تفرح بما يُقدّم لها خصوصا وأنّ كأس الشّاي
يأتيها كما تشاء، وما يبرّر رضاها أنّه صُّبّ في ذلك الكأس "المجيدي"
الصغير وحسب الكميّة التي تشتهيها، رشفة، أو رشفتان معدّلتان من حيث ميزان السّكر.
تتخطّى الخالة "زهرة" بهو الغرفة
لتمرّ إلى عمقها حيث تنتصب السدّاية، فتتخذ مكانها على يسار أمّي وتشرع في مواصلة
النسج. كنت أقف عند العتبة ولم أكن أتجاوز بعد الرّابعة عشر من عمري وأنا أتأمل
ذلك السّدى المُعلّق بين خشبتين والمشدود من الجانبين بقائمتين خشبيتين أيضا تُمسكان
الآلة وتُثبّتانها. كان يشدّ انتباهي تشابك السّدى الذي تفصل بين أعلاه وأسفله قصبةٌ غليظة
ومجموعةٌ من الأعمدة الأخرى والخيوط الغليظة.
وكانت الخالة "زهرة" تواصل إدخال
خيوط الصّوف الناصع البياض، رطب الملمس، باليد اليمنى، وتمسك
بــ"الرطّاب" باليد اليسرى، تترك الخيط معلّقا ما بين خيوط السّدى ثم
تنزله، وتسويه، وبعد أن تكون قد أنزلت تلك القصبة لتعدّل بها تماسك الخيوط تماسكا
جيدا يضيف إلى المساحة المنسوجة دقة وجمالا... وكانت تفصل بين المساحة المنسوجة
بعرض الأربعين سنتمترا بخيوط رقيقة رطبة من اللون الأخضر الفستقي، واللون الوردي
الداكن قليلا تنسجها بحجم ثلاثة أصابع، ثم تنهيه بنفس اللّون الأسود الذي كانت قد
بدأت به مجموعة خيوطها التي تفصل رحلة من العمل تمتد على يومين.وكانت إمّا أن تلتقي
بنفس المساحة، أو تُسْدِل لها مجموعة الخيوط المنسوجة حتى تُلحقها فيما بعد بما
تمّ نسْجه.
كنت أقف عند العتبة، ثم قليلا قليلا أتمكّن
من الجلوس قبالتهما أتابع بانتباه ذلك العود الخشبي الأملس الذي يُسمّى في لغة النَّسّاجات
بــ"الرّطّاب" وقد أمسكت به اليدُ اليسرى وتثبته على امتداد المساحة
التي تشتغل عليها.
تلتقط يدُ
النّاسِجة الجالسة على اليمين فتواصل نسْج الخيوط النّاعمة وتعمل على تثبيتها بكلّ
عناية وجماليّة، وبعد التقدّم في مدّ الخيوط، صعودا ونُزُولاً يَأتي دور "الخلالة" فتشرع الواحدة مِنْهما
في تنزيل الخيُوط المنْسُوجَة وجعْلها متماسكة ومحكمة النسج، وكان صوت الدقّ،
والضرب، يمتزجان فيحدثان لحنا مُوسيقيًّا مُنفردا، يبعث رسالة نبيلة بأنّ النّسْج
والنّسِيج، السّدي والسّدْى عمليّة إبداعيّة بامتياز.. كانت أمّي تأخذ حكّة حلوى
الشّامية الصّغيرة فتثقب كامل سطحها، وتعيد غلقها وتستعينُ بها لتجْعلَ من الفضاء
المَنسُوجِ رطْبًا ناعما. وما إن تُكمل
العمليّة من الدّاخل حتى أنقضّ على الحكّة كي أشرع في ترطيب المساحة من الخارج. كنت
ألحّ على أمّي وأطلب الإذن من الخالة "زهرة" لتتركا لي مُهمِّة إعادة مَشْط
المساحة المَنسوجة وجعلها ناعمة تشبه الشّعر الأرطبَ الذي كنّا ونحن صغارا نحرص
على الاعتناء به ليتهدّل على أكتافنا ناعما كملمس الحرير. كانت الخالة "زهرة"
توافق على إنجاز تلك المُهمّة على مضض لأنّها كانت تخاف أن تطُول يدِي السّدَى
فأمَزقه وقد يُكلّفها ذلك وقتا ضائعا في عقد الخيوط بعضها ببعض. لم يكن هذا
الامتعاض ليصُدّني عن رغبتي في تقليدهِما في تشبيك خيوط الصّوف الجيّد غزلها، والرّطب
ملمسُها.
كان القادم إلى تلك الغرفة التي يُفتح بابُها
على بهو بيتنا الواسع الأرجاء يهتزّ لصوت الرّطّاب
وهو بين يدي المرأتين يُحدث دقّاتٍ رقيقةً، ثم يأتي صوت الخلالة وقد وضعت أمّي في
أسفل مقبضها خمسة فضية ليد فاطمة، وقد يكون ذلك اعتقادا منها لحماية منسَجها من
العين الحاسدة، تظلّ دَقات الخلالة مُتتالية، وقد امتزجت برنين الرطّاب وكأنّه لحن موسيقيّ منفرد في عالم النّسيج
البديع.
ما إن يأتي المساء وتغادر الخالة زهرة مكانها حتى
أدْلف إلى ما وراء السدّاية لأشرع في النّسج وتمديد الخيوط وتثبيتها، ثم ضربها بالخلالة
كي أقوّي النّسْج، وأحسن العمل فلا تغضب الخالة "زهرة"، ولا توبّخني أمّي.
كنت أحسّ بفرح شديد عندما تُعانِق خيوطُ نسجي خيوطَ الجانب
الذي هو على ذمة والدتي فتتلقفها منّي وتسوِّيها وتُقرِنُها بمسَاحة النّسْجِ أمَامَها.
كانت أمّي تعينني على أن أتقن عمليّة النّسج
لأنّها كانت تعاني بصمْت من بطْء عمل الخالة زهرة، وقلة تمكّنها من دقّة
العمل لقصر كانت تعانيه في نظرها.
كانت الخالة "زهرة" أحيانا
تنتبه إلى أنّ أحدهم جلس مكانها وجعل النّسيجَ مُتداخِلا وتشرَع في اقتلاع عديد
الخُيوطِ لأنّها غيرُ مُتمَاسِكة. وفي غالب الأحيان كنت أحذق النّسج مكانها فلا
تنتبه إلى أخطاء نسجيّة قد أكون قمت بها،
وتُواصل عمَلها برضًى واطمئنانٍ ظنًّا منها أنّ أمّي هي التي سهرت ليلا
لتتقدّم بالعمل أشواطا، وبعد لأيٍ تعلو المساحة المنسوجة في شموخ العمل وإتقانه،
عندها تشْرَعانِ في طيّ المساحة إلى الأسفل وتبدَءَان إنجازا جَديدًا رائِعًا.
كانت أمّي ومُعينتُها تبتَهِجَان كثيرا عندما
تخفّ خيوط القيام"المنسُوجة، والتي كانت مُكوّمة في أعلى السدّايًة، ويكون قد
انتهى نسجا وطُوي على الخشبة من أسفل أنموذج عباءة الشمال الغربي المُميّزة. وما
هي إلاَّ بضعة أيّام حتَّى تتهيّأ المرأتان لفكّ أعْمدَة السدّاية، وفصلها عن
بقيّة الخيوط التي لازالت تربط أعلى السدّاية بأسفلها. بعد ذلك تفرشان في بهْو المنزل غطاء قديما وتشرعان في
فتح النّسيج الذي طُوِي على الخَشبَة السّفليّة المسمّاة في لغتهما بــ"القايمَة"،
ولعلّ تلك التّسْميَة تعود إلى الدَّوْرِ الذي تلعبه الخشبة السّفلى والعليا وما
علق بهما من عمودين كالذراعين يُمسكان الأسفل بالأعلى، ويحافظان على قوّة الانتصاب
وصموده.
يعتبر ذلك اليومُ الذي تنهي فيه أمّي نسْج عباءتها، بل لنقل تحفتها التي جمعت بين الإبداع
والإتقان. ويعتبر الحَدث بمجمله عند أمّي مُميّزا، فكانت تستدعي خالتي لحضور حفلة إنَّهَاء
السّدى وحلّ النّسيج المكوّم على الخشبة السُّفليّة ونشرها على حبل في فناء
البيت لتنقيته من بقيّة الشوائب، وكانت تنادي ابن عمّ لها لقياس الطّول والعرض،
لأنّ ذراع الرّجل قريب من قياس المتر.
تقدّم لقريبها شايا باللّوز وتدْعوه إلى العشاء
ليلا، فيعتذر عن الحضور، وتأبى أمّي إلاّ أن تبعث له العشاء إلى حدّ بيته، كما
تبعث كذلك صحنا من الكسكسي وقطعا من الطّاجين إلى بيت جدّي الطّاعن في السنّ والذي
كانت ترغب في نيل رضاه.وتؤمن بصدق النيّة في أنّ دعاءه مُستجاب ، وبعد لأي كانت أمّي
تكلّفني بأن أكتب رسالة إلى والدي الذي يشتغل على مسافة قريبة من العاصمة لأخبره
أنّها أكملت مِنْسجَها وسوف تشرع قريبا في نسج قشّابيّة له كما تسمّى في الشّمال.
تهيِّء أمّي احتفالا بتلك المُناسبة طعاما لذيذا،
فتذبح ديكا سمينا وتطبخ كسكسا بصدر وفخذي الدّيك. وكانت تهيّئ إلى جانب ذلك طاجينا
يسمى في الشّمال "طاجين بونارين" ممْزوجا بالبيض الطّازج وتدهنه بزبدة
زكية الرّائحة، وهكذا تقام في بيتنا مأدبة عشاء، تجتمع حول المائدة أمّي وخالتي،
والخالة زهرة وزوجة عمّي كانت تأتي أحيانا لتساعد أمّي، وكان معروف عنها إتقانها
لهذا العمل.
كانت الخالة "زهرة" ما تنفك
تُحدّث الجميعَ عن المجهود الجبّار الذي بذلتاه لإتمام تلك العباءة الرّطبة والشّديدة
البياض، والتي تزيد في بهائها تلك الخطوط السّوداء والفستقية والورديّة، مِمّا يُضفي
على هندستها جمالا وروعة.
تمتد العطلة الصيفيّة إلى مُوفى مُنتصف شهر
سبتمبر، وابتداء من أوائل شهر أوت كنت أشرع في تحضير مُستلزمات الالتحاق بالمعهد،
وكانت الإقامة في المبيت تُكَلفني تحضيرات خاصّة، وإضافيّة، فلقد كنت وصديقاتي نتّفق
على شراء مئزر ذي لون موحّد وهو اللون السّماويّ الفاتح، كما كنّا نتّتفق
على توحيد لون غطاء السّرير.
انشغلتُ بالدّراسة، ولم أعُد أجِد وقتا
لمتابعة ما تفعله أمّي، وكانت هي أيضا تريدني أن أتفرّغ خلال العطلة الصيفيّة
للمطالعة ومراجعة بعض المسائل.
وذات يوم من أيّام العطلة الصيفيّة خطرت ببالي صورة الخالة "زهرة" فسألت أمّي
عن أخبارها، فردّت عليّ وفي صوتها نبرة من
الحزن والأسَف قائلة:" رحم الله مُعينتي وصديقتي، لم يَمُرّ على موتها سوى
بضعة أشهر، ففي السّنة الماضية تُوفِّي زوجها فحزنت كثيرا على موته. ومع الأيّام رغبت عن الأكل ولم تعد تخرج من بيتها.
حاوَلت معها ابنتها ولكنّها عجَزت عن أن تعِيد إليها رَوْنقها، فزارتني ذات يوم
وأسَرَّت لي بأنّ حالة والدتها تسْتاء مع الأيَّام خصوصا منذ أن تُوفِّي زوْجها، فذهبتُ لزيارتها علّني أبعث فيها شيئا من الأمَل
معه تقبل فراق زوجها. وما راعني إلاّ وهي ترفض كلامي ولا تقبل الإصْغاء إليه،
وحاولت معها أن تنتقل لتعيش في بيت ابنتها القريب منها، فتعلَّلت بحجج واهية، إلا
أنّها لم تمْض بعض الأيّام حتى وجدتها ابنتُها تُعاني من حرارة مُرتفعة وكانت تَتقيّءُ،
حاولت تقديم بعض الإسْعَافات الأوّليّة لها إلا أنّها سرعان ما فارقت الحياة.
لقد عاشت بشَرف وماتت بشَرف... رحمها الله.
انتهت د. زهرة سعدلاّوي كحولي 24 فيفري 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق