السبت، 7 ديسمبر 2024

مآل | قصة قصيرة بقلم الكاتب الهادي نصيرة | تونس

 مآل | قصة قصيرة

يتوقف القطار، مطولا، في محطة تطل على شرفة أدمنتُ على مراقبتها... أجدني جالسة، أجول ببصري إلى الجهة المقابلة للمحطة، ومن طابق العمارة الأول، يطالعني وجه تلك السيدة ببهاء إطلالتها، وأبهة أناقتها...تتراءى في شرفتها، وهي ترتشف قهوتها على مهل، ونسائم الصباح تلاطف خصلات شعرها الكستنائي، الطويل...
كنتُ أراها، أيضا، عند عودتي من عملي، في المساء، في ذات المكان، إما غارقة في قراءة كتاب، وإما مشدودة إلى شاشة هاتفها، لا تأبه لما يجري بالقرب منها...
نادرا ما تُحرِّكُ ساكِنَها تلك الجلبة المنبعثة من المحطة، فتُلْقِي نظرة سريعة على القطار، قبل انطلاقه...
ذات عودة، لم تكن بمفردها، بل كان أمامها رجل، قوي البنية، فارع الطول، يبدو مستأثرا بالحديث إليها، وقد عكست حركات يديه المضطربتين، واهتزازات رأسه وكتفيه ثورة الغضب العارم الذي تَملَّكَهُ ، بينما تجمّدتْ هي في مكانها، وقد أشاحت عنه بوجهها، مُرسِلةً نظراتها في اتجاه المحطة ...
وكثيرا ما كنت أراه يدفعها بقوة باتجاه الباب الذي يفضي إلى شقتها ...
ما الذي يجري ؟ هل يكون ذلك الشخص المتشنج زوجها ؟ هل تعطلت لغة الحوار، بينهما، لِمِ يُعَنِّفُها بهذه القسوة، وهي صامتة لا تأتي بأي حركة تشير إلى دفاعها عن نفسها؟
أَنظُرُ مليا في وجوه المسافرين، فلا أجد أحدا منهم قد شغلته سيدة الشرفة، وكأنني وحدي من يتابع حلقات هذا المسلسل اليومي...
قد يكون ما أعانيه هو ما عَزَّزَّ فضولي...
لم يكن يكتفي بتبديد المال، في السكر وسهر الليالي، بل كان يعمد لإهانتي، وتجريحي، كلما أبلغته احتجاجي، أو رُمْتُ إثناءه عن التمادي في نهج أفعاله السيئة...
سألته يوما وبيدي دليل إثبات :
_ من الذي أَوْصَلَ صورتها هذه إلى جيب سترتك ؟
_ هي إحدى صديقاتي على الفايسبوك...
_ إحدى صديقاتك ! بين يدي صورة بنسختها الأصلية، من الواضح أنك تسلمتها من يدها ليدك؛ دليل على أنكما كنتما تلتقيان !
وحين نظرت إليه، ألفى نفسه عاجزا عن الإجابة، مكتفيا بالصمت ؛من المحتمل أنه سيسعى، كعادته، بشكل ما إلى إخماد صوتي، وإكراهي على القبول بتجاوزاته ...
اشتعلت في داخلي نيران القهر، ولم يعد أمامي من حَلٍّ غير اتخاذ القرار الحاسم، للتخلص من عربدة زوجي، الذي اختار طريق المجون والاستهتار، واللجوء للعنف، في كل مرة، للتغطية عن فداحة أخطائه المتكررة...
نفذ صبري، بعد أن سُدَّتْ أمامي آفاق مستقبل، يفترض أن يكون مريحا، وانطفأت الأحلام، وتلاشت معها كل الأماني، فوجدتني، وقد تجرأت، أَرْفَعُ بلا تردد، قضية الطلاق...
لا أدري كيف انقلب كل شيء، وكيف اجتاحتني تلك الرغبة المُلَحَّةُ في الانفصال عن ذلك الرجل، الذي حرمني الاحساس بأنني كائن إنساني، جدير بالاحترام... لم أعد آمن على نفسي منه، وأنا أشاركه الحياة تحت سقف واحد...
لم يفاجئه قراري، لكنه تظاهر بعكس ذلك، ثم ما لبث ان أرغى :
_ عن أي طلاق تتحدثين؟ الموت أقرب لك... نهايتك ستكون على يَدَيَّ ، هاتين !
هربت من بيتي، يصحبني خوفي وأولادي، لكن حضن أبي بدَّدَ خوفي :
_ امسحي دموعك يا ابنتي...أُطَمْئِنُكِ ...تهديدُهُ لن يَمُرَّ، وسأوقفه عند حَدِّه ...
هل نسي، أنه أمضى تعهدا بعدم التعرض لك ؟
لكن أمثاله لا عهد لهم...
حَمِدْتُ الله أن كان لأبي وجودٌ في حياتي...اسْتَعَدْتُ الأمان الذي افتقدته منذ زمن... سنتان مَرَّتَا، هكذا ؛ دأبتُ، خلالهما، على مسايرة إجراءات التقاضي إلى حين صدور الحكم بالطلاق، ليكون لي بمثابة قشَّةِ النجاة. وإذا بلحظة الطلاق قد أنستني كآبتي، وقلقي، وكل اختناقي السابق، و عُدْتُ أتَنَفَّسُ هواء الحرية...
لاحظت منذ مدة قصيرة بأن الشرفة فارغة؛ لا شيء، هناك، سوى ستارة بيضاء يحركها الهواء ... ورحت كل يوم في ذهابي وإيابي، قبل وصولي إلى المحطة، أدعو الله أن أراها، وأشعر بالأسى، كلما خاب أملي، لكن وجهها لم يغادر ذهني...
مرّتِ الأيام، هكذا، وكدت أنساها، لولا أن أستوقفني، بل أصابني بالذهول والذعر ، ما وقعت عليه عيناي ؛صورة وجه مألوف، وعنوان مثير تَصدَّرَا إحدى الصحف اليومية...
« على إثر صدور حكم طلاقها، سيدة أربعينية تختفي في ظروف غامضة»...
الهادي نصيرة | تونس
Peut être une image de 1 personne, polaroïd et lunettes


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق