المتقاعد الأخير
جلال باباي ( تونس)
ُأُحِلتُ على شرف المهنة
خرجت إلى الشوارع الفارغة
َمَرٌ الشتاء الأوٌل
كنت ارتجف
وهيكلي العظمي
معلقا في صارية عصاي
قبعتي الرماديٌة كانت تحجب
وجه الريح لم يعد على الرصيف
سوى كرسيٌ حارس معمل النسيج
خالِِ من بنات أفكاره
رغم الغبار
اعتقدت أنني تعرفت
على ملمح صديق قديم
يبحث على باقي الموظفين
ندمانه على طاولة الورق
قلت لنفسي وتماديت..
حوالي الألف مرة،
حتى اختفى الريح
لملمت عري الشارع
ورميته في قمامة البلدية
2
لم يعد ثمة مكان ألجأ إليه لوقت طويل
كنت أتجول حول أرض هذه القرية
باحثا عن كافيتريا مفتوحة
حتى اتناول أخبار الصباح،
أفتش لي عن قاعة حلاقة
كي أبادل الكلام مع حرفائها
بدت كل المباني خالية
فارغة من الحراك والفقراء ،
كما لو أن ساكنيها هاجروا أو نياما.
لم يبق لي ما أفعله سوى أن أحوم
حول خريطة المكان وأتذكر....
ولكن حتى ذاكرتي خانتني هي الأخرى
تتبعت خطى الدواب في الثنايا
علٌني أعثر على خيام الأخلاٌء
فاسترقت لي مخبئا
جنب باقيات الحمام الزاجل
فوق سطح بيتنا العتيق
كأنه بلاط أمراء
3
رأيت نفسي أشبه ب المتقاعد الأخير
باكيا ، هشا مثل الأطفال
أركب دراجة زرقاء،
قاطعا شوارع " أم القرى"
تاركاو البحر على يساري المعطب
على يميني تزدحم الصور
تتلاشى تدريجيا من دفاتري الصدئة
كنت أخشى ضياع علبتها القديمة
أو ذهاب الدراجة مع الغيوم
هل ستذوب في مقلتي" أم القرى"
و يرحل المتقاعد الأخير
نحو العدم وعالم النقاء.
4
ظننت أنني تعرفت عليه
صاحب مظلة السعف الصفراء
صديق من أيام الشباب
يبقى لوقت طويل في مقام أحاديٌ
كطائرة ورقية معلقة فوق المدينة
هو بلا شك الأكثر شجاعة بيننا
متحجٌر، في مأمن من الريح والتاريخ.
كاني مثله مصنوع من جوهر
أخف من الأحلام.
بريق يَرى ولا يُرى،
عين ترى ولا ترى.
حتى عادت الذاكرة بيضاء
وخرجتُ إلى الشارع
أستطلع أمٌهات قصائدي العذراء
برفقة حارس المصنع
قد هاجر كرسيٌه
وترك بابه مفتوحا للنساء.
شتاء 2024
-------------- الرسم: بول كلي Paul Klee
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق