قراءة في المجموعة القصصية "الصعود إلى الهاوية" للكاتبة منجية الحاجي.
تعددت المواهب وباتت الأقلام العربية تتفنن في نحت اللوحات الإبداعية، مسايرة للأدب الغربي أو لأسلافنا المبدعين، ولم يعد الكاتب مقتصر على منهج وحيد ليبرز جمال حرفه وبديع قلمه، حيث تعددت الإصدارات الأدبية (شعر – مقال – قصة قصيرة – قصة قصيرة جدا – دراسات أدبية – ومناهج نقدية ...وغيرها من النماذج .... ) فبات الكاتب متميزا في هذا أو ذاك،
لقد تعددت القصص والمجموعات القصصية المختلفة التي تغزو الساحة الثقافية في كل حين، ورغم اختلاف المناهج والمدارس الأدبية إلا أن رونق القصة وجمالها وحسن صغتها وتركيبها ما يزال يلزم الكاتب بما توفر إليه من أدوات لحبكة القصة وتطويع قلمه لتشكيل الصورة الجيدة حتى يعيش القارئ ويشترك في المشهد البديع الذي صوره الكاتب، كما تعتبر القصة من بين الفنون الأدبية البليغة حيث يصور الكاتب الواقع المعيشي ومشاكل الحياة وطرح لبعض المشاكل والشواهد التي يعيشها الكاتب كما لا تخلو من التصورات الذهنية وما تفرزه القصة من غايات وتحقيق أهداف يرسمها الكاتب لتبليغ رسائله،
ولعل المجموعة القصصية التي بين يدينا، "الصعود إلى الهاوية" للكاتبة المتميزة منجية الحاجي، قد حققت هذه الميزة التي لمستها في القصص الواردة في هذا المنجز،
هي شاعرة وقاصة بإمتياز، حيث تنوعت إصداراتها بين الشعر والسرد، ليولد من بين أناملها أجمل اللوحات الشعرية، والصور البديعة،
و"الصعود إلى الهاوية" هي مجموعة قصصية شكلت بطاقة تعريف لقريحة المبدعة حتى تمتع القارئ بسرديات قصيرة، فيها من الخيال الخصب والواقع الملموس، لتشكل ذاتها في مجموعة من القصص القصيرة جسّدت فيها تجربة الحياة وآثارها المعنوية على فكرها النابض.
وباعتبار أن القصة القصيرة هي حدث، أو حادثة تشكل موضوع متكامل من شخصيات ومقومات السردـ لتأم موقفا تاما يترك آثاره لدى القارئ، فإن القاصة منجية الحاجي أبدعت في تجسيد عناصر القصة ومقوماتها، حتى يتميز منجزها بجمالية الإبداع وسلاسة السرد فتراها تشد القارئ كلما توغلت في رحم معاناة الحدث، فالقصة القصيرة تتميز بفكرتها التي تمثل جزء من الحدث الموصوف، وكذلك جزء من الشخصية والزمان والمكان لتكتمل القصة ونبرز مفاتن السرد في جمالية بديعة تسافر بالقارئ في رحلة ممتعة مع أصالة الحرف وجمال اللغة وحسن المشهد المصور بحرفية،
وقد شدتني بعض القصص المتميزة لحبكتها الجيدة والواضحة، فمن خلالها يمكن أن نأكد أن الكاتبة قد أجادت في السرد ورواية الأحداث بدقة ودراية،
كما ورد في هذه المجموعة للقصص القصيرة:
كرسيّ يختنق
في عصمة بغل
المقصلة
وباعتبار أنّ القصة القصيرة هي أفكار مبلورة بحنكة، فقد تميزت جل القصص بالواقعية، وتكاثف الأحداث التي أحكمت بلورتها الكاتبة والشاعرة منجية الحاجي ولعل دورها كشاعرة قد ساعدها في كتابة القصة القصيرة التي أعتبرها شخصيا موازية للشعر من حيث الفكرة والأحداث والهدف،
كما أن هذه المجموعة لا تخلوا من الحوارية السردية والخطاب المباشر الذي وضفته كاتبتنا منجية الحاجي في بعض النصوص كقصة:
(اخلع نعليك ...)
" أدلى بدلوه إلي البئر المهجور كجبّ يوسف.
لم يجد غير مسودّة الماضي تخنقه العبرةّ وغصة بالوريد.
-من أنا؟ من أكون أنا !؟
-هل وكّلني الله على شؤون خلقه؟
-أي مصيبة اقترفها؟
-هل كنت فاقد العقل، - تحركني أياد خفية؟
-تأكل بفمي الأشواك."
وقد طرحت العديد من القضايا الاجتماعية والنفسية في بعض النصوص
حيث لمحت بدايات رائعة مشوقة لهذه المجموعة المتميزة التي انتقتها كاتبتنا بعناية وقد اعتمدت المفردات المعبرة والجميلة في كل النصوص ولم تتغافل على أهمية العناصر الأساسية من مكان وزمان لسرد الأحداث وقد كانت الأحداث سلسة مترابطة تشد القارئ كلما وطئ صفحات هذا المنجز المتميز.
هذه المجموعة تميزت بثراء محتواها الأدبي حيث ستلعب دورا هاما في نسج خيوط الضوء والعبرة لكل القراء بما فيها من مواضيع مختلفة وقد احتوى الغلاف على رسم تشكيلي يربط القارئ بالمحتوى بريشة الفنان ماهر بنعمار يستوطنها الرّمز والإيحاء
وقد حمل هذا المنجز 23 أقصوصة تميزت كلها على بعضها البعض، حيث قامت على سلسلة من الأحداث، مرتبطة بذات الكاتبة وما شهدته خلال الرحلة الحياتيةـ أحداث شدتني بشغف، لما فيها من جمال اللغة وحسن السرد وتبليغ المراد.
بعض العناوين المشوقة (مرآة خرساء، في عصمة بغل، نفسها والكفن، صكّ الغفران ...)
كما شكلت الشخصيات في أقصوصاتها عنصرا أساسيا، بنيت عليه أحداث القصة، وقد تعددت الشخصيات في بعض القصص وفي البعض الآخر كانت شخصية ثابتة منفردة في آداء دورها بامتياز.
"الصعود إلى الهاوية"، هذا المنجز المتقن بلغته السهلة وسرده السلس، يحاكي الواقع الملموس الذي عاشه ثلة من فئات المجتمع العربي،بغض النظر على التموقع الجغرافي الذي يعبره الكاتب بإنتاجه لتصل صرخة القلم لكل الربوع،
وفي خاتمة هذه القراءة، أترككم مع مقتطفات من المجموعة القصصية
جزء من قصة: اخلع نعليك ...
ركبت المطية مع إتباع حنظله حتى ملني الرّكوب، كما ملتني الدروب الخاوية.
كمن يكنس البحر بأسنان المشط.
خلقت من صلصال وطين.
هيا طأطأ رأسك و...
نظف ما علق بك من دم، وعانق نبوءة الحصاة، قد ينفخ في وريدك الميزان من حكمة الله، ويتجلى لك عطر الميزان، وفطرية الإيمان.
ارسم الكون فوق نصبه بتسابيح الجهر باسم آية الصخر.
لكن كيف ؟ وثوب القذارة يتبعني؟
هيا أمضى قدما
اخلع نعليك وتطهّرْ
وصلي لربك وانحرْ!
اغتسل بماء العين ، فملح العين طهارة
فجرا قصد المصلى متعثر الخطو... انهمرت دموعه .. سكنت جوارحه..
سجد وأطال السجود..!
جزء من قصة: في عصمة بغل
الأشجار السامقة تناجي سكان السماء، المنزل أقيم في هذا المدّ الرحب الأخضر قبالة المنحدرات المترامية .
كلاب الحراسة تمشّط المكان...تراقب الشاردة والواردة،متأهبة لأي حركة أو حدث مباغت، كل الأماكن مطوقة ومحروسة بحرفية عالية ..
البغل هناك، يجوب الأزقة والحواري، يتبختر مصعّرا وجهه شطر السماء. وهو يلبس ربطة عنق في الساق اليسرى ويبتسم، يعض على شفتيه بأسنانه البيضاء وهو يردّد، "وأخيرا سأكون الحاكم للغابة، فكم تمنيت أن البس جوربا اسود دون أن يلومني احد، أو يفرض عليّ لونه أو مقاسه .... أو...
كنت أعيش على التبن اليابس، وأبيت في الخرائب وفي المغاور وتحت سفوح الجبال اقتات على بقايا الفتات.
افترش ظليّ وأنام على تخوم المزابل، تطاردني فزّاعة الأسد، لا أعرف من النوم إلا قليله و من الطعام ألا أقذره، وحتى الصلاة أصليها خلسة كي لا يقال اني من سلالة القدسين أو الأنبياء، فيدخلونني قسرا في سجون مظلمة ،وان سولت لي نفسي رفع راسي أمامهم، يجلدونني بلا شفقة ولا رحمة لتنهال علي العصي كمتاريس رصاص تغتال فيّ كل حياة، وأُعذّب عذابا نكرا ..
الآن ...الآن فقط تغير الوضع . مات الأسد وقلت فصيلته واندثر أعوانه وحراسه ومن لف لفيفه كل.
جزء من قصة: كرسيّ يختنق
"قليل ذلك كان يمضغ الثلج.. وعقله يمارس العجز، يفتش عن صوته داخل كل الدروب الممزوجة برذاذ الوهن
فلا يجد غير ريح تصفر في الأركان.
- عجبا أنا أمارس كل الطقوس وأسجد لكل الأديان، فتنسدل ستائر العتمة وينكسر زجاج الوجوه. تحولها إلى قناطر من وهن، تجرها قاطرة الزمان.
يا أبي ما لهذه العجلة ترفض الدوران.
قال إنها تدور.. هي كغيرها ستدور... وتدور... وتدور،
لكن هذه العجلة لا تدور يا أبي، وكرسيّها ثابت، أنا لا أحب الكراسي الثابتة
أخاف أن يجتاحها الصدأ وتكون مخبأ للجراثيم.
يا بنيّ كل الكراسي متشابهة، كالثعابين تلتف حول بعضها لتنفث سمومها
وتكون فزاعة في الأرض.
يا بنيّ ثق أن كرسي عجلتك سيدور لا تخف لا أحد فوق الإختناق ولا أحد فوق ظلمة المأوى، كلنا على الدّرب سائرون رغم تماسك الكراسي وتشبّث الرّاكبين والجالسين. "
جزء من قصة: المقصلة
" تعود بالصراخ للوراء لأكثر من ألف وجع، تنهض من ظلمة القبر يرتسم بمخيلتها شريط سينمائي مرعب.
تستمع لأصوات أناس تخشبت قلوبهم.
أماه!!!
يخرج ندائها مدويا يكسر جدران صمتها.
تتمرد على طفولتها الهشة، تغويها لمسات أمها، بأنامل ترتعش.
وهي تصرخ... يا رجل لا تفعل بابنتك ذلك.
إنها صغيرة، لا تحطّمها أرجوك
تخرج الكلمات متقطعة لتجد نفسها ملقاة على الأرض،
إذا هو مصر على ما عزم عليه، لعله محقا، ثم تنهض وتستلم.
كان عليه أن يكون الرجل الأول الذي يخرج عن قوانين ورثها عن أجداده.
يحملها بين ذراعيه
أنت خائفة يا ابنتي؟
لا أبي
أنا أحبك وأحب أن أذهب معك.
أحسّت أول مرة بفرح لا تعادلها كنوز الدنيا، حين حملها بين ذراعيه وهي تلعب بشعر لحيته."
من المجموعة القصصية للكاتبة منجية الحاجي (الصعود إلى الهاوية)
هذه القراءة تقديم بسيط للمنجز، وليس نقدا ولا أي صفة أخرى،
تمنياتي للكاتبة بمزيد التألق والمزيد من العطاء
الشاعر طاهر مشي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق