الأربعاء، 31 أغسطس 2022

  (وجه بلا ملامح)  قصة قصيرة بقلم: عبدالكريم جماعي/ تونس.

 قصة قصيرة:

بقلم: عبدالكريم جماعي/ تونس.


                    (وجه بلا ملامح)


(قلبه مثل الحجر الصّوّان القاسي.. لا يحسّ ولا يشعر..بارد مثل الصقيع..لا يرفّ له جفن أبدا حتى لو تكالبت عليه الهموم..يبدو للناظر اليه كشخص معتوه أو درويش..قسمات وجهه ثابتة..لا تتغيّر..لأي حدث طارىء..او موقف محرج..جبينه لاينزّ عرقا الا من حرّ الطقس.. و لا تحمرّ وجنتاه خجلا مهما حصل..يمشي في الشارع مستقيم الظهر لا يلتفت أبدا ولا يحفل بما يدور حوله..هائما طوال الوقت..كانّه يفكّر في أمر جلل..!!

تقاطعت سبلنا في ريعان الحياة..عرفته شابا في مقتبل العمر..مثقفا..حريصا على الاطلاع الوافر..حالما..بالآمال العريضة..مصمما على بلوغ منتهى الاشياء في عزم غريب..وارادة قاهرة..لكن كل ذلك الزخم تلاشى كالدخان رويدا رويدا مع الايام..كل تلك الأماني تبخّرت كسحابة صيف..في هذا المجتمع المريض بأسوء انواع الاسقام..!!

كان في طموحه الجارف يرغب في أن يكون مختلفا..عن باقي أبناء جيله في قريته المهمشة التي تطل على البحر..في ذلك الجنوب القاسي..نشأ في أسرة ريفية متوسطة الحال..لكنها ليست منغلقة مما اتاح له خوض تجاربه المضنية بكل حرية..فأخذ على عاتقه كل نتائجها وتحمل وزرها وحيدا..فقد كان سيد قراره دائما..مما ولّد في نفسه رباطة جأش فريدة وشجاعة نادرة..تجلت في كل مغامراته التي كادت ان تعصف به و تغير مجرى حياته في عديد المرات..!!

أيام صباه وشبابه التي قضاها قرب ساحل البحر..جعلته حريصا على تعلم كل النشاطات هناك من صيد وسباحة..ففي العطل المدرسية رافق البحارة على القوارب البسيطة لصيد السمك في رحلات محفوفة بالمخاطر..كان يرغب في اتقان تلك المهنة حتى بلغ به الشغف أن قرر فجاة وهو في ريعان شبابه..الانقطاع عن دراسته..في سبيل العمل بالصيد البحري..حيث صادف وان اقتنى والده بعد عناء مركبا جديدا..فتشبث بطلنا بهذه الفرصة واقترح على ابيه أن يقوم هو بنفسه بمهمة العمل عليه عوض البحث عن شريك من أحد "الرياس" ذوي الخبرة..صمم وركب راسه العنيد..وكان له ما اراد..انقطع عن مزاولة الدراسة بالمعهد رغم تفوقه..ودخل معترك الشغل المضني وكله عزم على النجاح وتشريف أسرته بين حيتان البحر والبر..!!

اجتهد و ثابر طوال عام كامل..اختار فريقه من العملة بعناية..قضّى أياما وشهورا في تعب وضنك..لم يسعفه جسمه الهزيل في مقارعة صقيع البحر في الشتاء..وسهر الليالي في البرد الذي يتسلل الى العظام..ظن في نفسه القدرة على مجابهة خطر الامواج العاتية..في سبيل تحصيل رزق مضمخ بالملح والرطوبة..جلس مع نفسه طويلا..تذكر دروس العلم واجواء المعهد..فندم على مفارقة فصل الدراسة..قرر اخيرا العودة الى  صفوف التلاميذ..في تحدي جديد..أبلغ والده بعزمه على ترك البحر وأهواله..والانكباب على الدرس والمضي قدما في تحصيل شهادة الباكالوريا التي ستفتح له أبواب المستقبل..!

عاد للصف المدرسي من بوابة مدرسة خاصة..وتعهد بمصاريفها بنفسه مما ادخره من عمله في البحر..في رغبة جامحة لتحمل تبعات ذلك القرار الغبي لوحده..قرار الانقطاع عن التعليم..!!

اغرق نفسه في متابعة دروسه ليلا ونهارا..عازما على تعويض ما فاته..حتى جاء اليوم الموعود..يوم اعلان نتائج الامتحان..لم يجد اسمه ضمن الناجحين..تفاجأ بمدير المعهد يقترب منه ويهمس في أذنه بنبرة حادة حزينة: لقد ورد اسمك في قائمة المتهمين بالغش..و ستمثل قريبا امام لجنة من وزارة التربية والتعليم..!!)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق