الشاعر التونسي القدير كمال العرفاوي : " قصيدة النثر التّجديدية"..تؤسس لاثراء المشهد الشّعري وإعادة البريق للشّعر و الشّعراء..
أفرزت الدعوة إلى التجديد في مضامين الشعر العربي وأشكاله التقليدية/ الكلاسيكية،خلال الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية،شكلين من الشعر؛تجلّى الأول في قصيدة "التفعيلة" أو الشعر "الحر" أو "الشعر الجديد"... الذي انطلق مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة والبياتي ولميعة عباس وآخرين في العراق. ليتبعهم بقية شعراء العالم العربي أمثال صلاح عبد الصبور ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم.
أمّا الشكل الثاني الذي تأخر قليلاً عن الأول وتزامن نسبياً معه،تجسد في قصيدة "النثر" التي ما يزال السجال حولها قائماً حتى الساعة، بين من يصرّ على تصنيفها شعراً وبين من يراها شكلاً من أشكال الكتابة السردية التي تنضوي تحت تصنيفات الفنون الأدبية الأخرى، من رواية وقصة ومقالة..مشدداً على إخراجها من خانة الشعر شكلاً ومضموناً.
من خلال هذا الاستعراض السريع للنثر،يتبيّن لنا أنه أسلوب أدبي يختلف كلياً عن الشعر المتداول في ذلك الزمان،وإن كان يتقاطع معه في بعض الجوانب المتعلقة بالأغراض والغايات، كإثارة الحماسة أو للترهيب والمفاخرة والتحريض..وأحياناً في بعض الجوانب الشكلية المتعلّقة بالقافية التي أقرب ما تكون إلى "السجع" في الأسلوب النثري.إلا أن الاختلاف يكمن بصورة رئيسة في الوزن والإيقاع الذي يختص به الشعر في ذلك الزمان،نظرا لتقيّده ببحور الشعر المعروفة التي استخلص قواعدها الخليل بن أحمد الفراهيدي.
شعراء كثر بتونس ينتصرون لقصيدة النثر ويؤكدون أنها جاءت نتيجة حتمية للتطور البشري وما رافقه من تجديد طال مختلف الجوانب الثقافية والفنية والأدبية..تماماً كالتجديد الذي أفرز قصيدة التفعيلة في منتصف القرن العشرين،بل ونفس التجديد الذي طرأ على الشعر التقليدي نفسه،والذي تمثل بظهور قصائد "الموشحات" في الأندلس بوصفها حركة تجديدية فرضها واقع ذلك العصر.
إلا أن الشاعر التونسي القدير كمال العرفاوي له رأي مغاير إذ يعتبَر الأب الروحي لما يسميها ب"قصيدة النثر التّجديدية" حيث يقول :" قصيدة النثر التّجديدية هي لون من ألوان الشعر الحديث،و هي مزيج ما بين الشّعر و النّثر.مواضيعها تلامس أغلب النّاس عاطفية كانت أو اجتماعية أو سياسية أو وطنية أو دينية...و تهدف للمحافظة على اللّغة العربية، و الارتقاء بالذّائقة الشّعرية،و لتحقيق أهداف و غايات مختلفة لا حصر لها بلغة واضحة وسليمة و مفهومة من الجميع.ومن خلالها يمرّر الشاعر رسالته إلى جمهوره من القرّاء مستعملا معجما لغويا ثريا و واضحا و صورا شعرية مُستَحدَثة معتمدا على إيقاع خفيف وجرس موسيقيّ مُستحَبّ و حبكة عالية.و بالتّالي يُعَدُّ هذا النّمط من الكتابة سهلا مُمَتَنَعا..."
وأنا أقول : إن قصيدة النثر خيارٌ جماليٌّ تقدم بناءً وفضاءً شعريا بمعايير فنية مغايرة لما هو سائد عن الصورة الذهنية التي كوّنها القراء منذ قرون طويلة عن الشعر العربي الذي يعتمد على الوزن وتفعيلاته.وهي تساعد القارئ على أن يكون خلاقا في استخراج الدلالة النفسية والفكرية وفرادة الرؤية التي يمتلكها شاعر عن آخر دون أن يكون واقعا تحت تأثير الموسيقى والصور المجازية المفرطة.
إن قصيدة النثر هي موقع المواجهة على حد تعبير باربارة جونسون بين الداخل والخارج، حيث تقوم على حالة المفارقة والتقابل في التصور الذهني بين الشعر والنثر.
لكن هل يمكن قراءة هذه المفارقة وهذا التقابل والصراع بين النثر والشعر كنوع من الاستعارة تشير إلى التقابل والصراع الاجتماعي والإيديولوجي والفكري؟
هل التحول الكبير الذي حدث للشعراء في عقد التسعينيات والانفجار الكبير في كتابة قصيدة النثر يمكن قراءته اجتماعيا وسياسيا في سياق انهيار الصراع القطبي بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة،وانفراد الأخيرة بحكم العالم،وانهيار القضايا الكبرى والكلية وانحياز الشعراء لما هو شخصي وذاتي،ما هو إنساني في ضعفه وتشظيه؟
وهل يؤيد هذه الفكرة انحياز شاعر قصيدة النثر لما يومي وواقعي عما هو خيالي مجازي مجنح،ويترجم هذا إلى انحيازه كذلك إلى لغة الحياة اليومية في عاديتها وكسرها لأفق توقع الصور البلاغية الاستعارية التي تصاحب عادة الشعر؟
وهل ارتباط قصيدة النثر بفكرة الكتابة والتدوين وتخليها عن سلطة الشفاهة التي ميّزت الشعر الموزون وشعر التفعيلة جزءا من فلسفتها التي انحازت لها،انحيازها للإنسان في ذاتيته وعاديته بعيدا عن سلطة الشفاهة والإلقاء والموسيقى التي تمنح الشاعر أدوارا فوقية،فوق إنسانية؟.
مبرّرات ولادة قصيدة النّثر التّجديدية برؤية الشاعر/الكاتب التونسي كمال العرفاوي :
" رغم وجود قصيدة الشّعر العمودية و محبّيها و قصيدة التّفعيلة و عشّاقها،و قصيدة النّثر ومعجبيها،و قصيدة النّثر الحداثية و المغرمين بها إلّا أنّه لوحظ بعض العزوف من عامّة القرّاء عن قراءة القصيدة بصفة عامّة واتّجاههم في غالب الأحيان نحو الرّواية و القصّة بأصنافها و ذلك لعدّة أسباب أهمّها التٓطوّر الحاصل في المجتمعات و الّذي شمل جميع ميادين الحياة ممّا جعل القصيدة بأنواعها المتعارف عليها غير جالبة للقرّاء رغم قيمتها الأدبية الّتي لا يختلف فيها عاقلان،و ربّما لأنّها لم تواكب هذا التّطوّر و بقيت قوالبها ثابتة.و ربّما لجنوح قصيدة النّثر و إيغالها في الغموض الّذي يعتبره النّقّاد قيمة جمالية مائزة و لكن يعتبره معظم القرّاء عائقا لفهم القصيدة و سببا لهجر الشّعر.
و كأنّ قصيدة النّثر أصبحت نخبوية لا يستطيع فكّ رموزها إلّا النّخبة المثقّفة و بالتّالي خسرت عددا لا يستهان به من القرّاء.
في هذه الظّروف وُلِدت قصيدة النّثر التّجديدية لاثراء المشهد الشّعري.و قد استنبطها الشّاعر التّونسي كمال العرفاوي و قام بالتّنظير لها و تبنّاها الشّاعر التّونسي محمّد العويني الّذي ساهم في التّنظير لها و كتب عشرات القصائد النّثرية التّجديدية وذلك لاستقطاب أكبر عدد ممكن من القرّاء و لإعادة البريق للشّعر و الشّعراء و لتحقيق أهداف و غايات مختلفة، فجاءت قصيدة بسيطة مستساغة و مفهومة من الجميع.."
نموذح من قصيدة النثر التجديدية بإمضاء الشاعر كمال العرفاوي :
.
الصّبر
سأصبر و أصبر ثمّ أصبر
حتّى يصير الصّبر
جزءا من حياتي
سأصبر حتّى أتجاوز
كلّ مِحني و خيباتي
سأصبر ما دام الصّبر
دواءً لجراحاتي
فقد تعلّمت
أشياء كثيرة من حياتي
و عرفت أنّ الصّبر
دواء لكلّ علّة من علّاتي
به تستقيم
مسالكي الملتوية و ممرّاتي
و أتجاوز به كلّ محنة
تعترضني في حياتي
فلا شيء يدوم إلى الممات
فالحياة فيها الكثير من المَطبّات
و فيها الكثير من المُتّناقضات
فيها الحزن..
و فيها الأفراح و المسرّات
فيها الهدوء..
و فيها الغضب و التّوتّرات
فيها النّجاح..
و فيها الكثير من الخيبات
فيها اليسر و فيها العسر
فيها الجدب و فيها الخصب
فيها الجفاف..
و فيها الغيث النّافع و التّساقطات
فيها النّسيم العليل
و فيها العاصفات الذّاريات
فالحياة مبنية على المُتّناقضات
و الصّبر سلاحنا المُنقذ في هذه الحياة
به نتجاوز مِحَننا الشّديدة و الأزمات
و نفرّج به جميع همومنا و الكُرُبات
و ننال به رضا الرّحمن و الحسنات
أترك للقارئات الفضليات والقراء الأكارم مساحة فسيحة للتفاعل مع هذا اللون الجديد من الشعر.
أما أنا فأرى (وهذا الرأي يخصني) أن الشاعر التونسي القدير كمال العرفاوي (الأب الروحي لقصيدة النثر التجديدية) يقطع مع التقليد والنمطية،و يحتفي بالفرادة و الخصوصية.ويؤكد على حقيقة أن السمو بالشعر،ليس في تلك الأوصاف المادية المباشرة الصرفة.وإنما هي في السمو به روحيا،و جعله لا يفقد جوهر معناه الحقيقي في ديوان الشعر العربي..أعني الصفاء،البهاء والتجلي..
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق