(كتاب اليوم)
"جدائل الخيزران "
للشاعرة التونسية زهرة النابلي .
وجع الغياب والفقد والحرمان في "جدائل الخيزران "
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
يقال: كأَّن قَدَّها غصنُ بانٍ, أو قضيبُ خيزُران. والخيزران هو نبات من الفصيلة النجيلية, ليِّن القُضْبان وأملس العيدان, ومنه أَنواعٌ كثيرة. وجمعه : خَيازرُ. وهو معروف في المعتقدات الشعبية بأنّه يجذب السعادة والبحبوحة, ويقي من الشرّ ويجلب الحظّ من جهة , ومن جهة أخرى, يعتقد الكثيرون أن له تأثيرا ايجابيا على العقل , إذ من وظائفه زيادة المرونة العقلية، والتنمية الروحية وبلورة المواهب, والأهمّ من ذلك أنّه ينشل المهموم من الاكتئاب والضجر.
استحضرت هذه الأفكار وأنا أقرأ قصائد الشاعرة التونسية زهرة النابلي وعددها 46 قصيدة نثرية وقد جمّعتها في كتاب يحمل عنوان (جدائل الخيزران ) , صدر عن دار الثقافية للنشر بالمنستير في طبعة أنيقة في أكثر من 190 صفحة من الحجم المتوسط سنة 2021 . فماذا عن هذه القصائد ؟وهل يصح المعتقد عن الخيزران في هذه المجموعة الشعرية البكر للشاعرة ؟
ومن البداية نعثر على الإجابة وعن صحة المعتقد من عدمه في التصدير الذي اعتمدته الشاعرة في الصفحة الخامسة حيث تساءلت :
(كيف تشرقُ شمْسك ومرآة الصبح ملطخة بخطايا الليل ؟ ) . ومن خلال هذا التساؤل نفهم أن الشمس غائبة في سماء الشاعرة وأنها في الحقيقة غير محظوظة وبعيدة كل البعد عن البحبوحة والسعادة , وأن مرآتها هي شظايا عابسة فوق بلاط الخيبة وقد قالت في صفحة 186 :
(...أيتها المرآة
يا سرابا مشتتا
على بقايا الظلال ...
لن ألملم مزاجك
ردّ لي ضحكاتي
وخذ بقايا وجعي
لم يعد هناك ...
إلا أضغاث قلب ونسيان
على مرآة متروكة ...).
والثابت أن هذه البقايا من الوجع هي حمل ثقيل يرافقها أينما حلت , وقد لبست ثوب الأنين بعد أن رحل الحبيب ولاح غيابه في غيمات الحروف , وهي الشاعرة المكبلة بالصمت تحمل قلمها تماما كما تحمل وجعها وكذلك قصائد بيضاء مازالت تنتظر شروق الشمس , وهل تشرق الشمس في الخريف ؟ حتى أنها تقول في قصيدة (إلى توأم وجعي) في صفحة 50 :
(... هو الخريف كملحمة
تلوذ بها الأشواق
كالأوراق ...
حين تنفخ الرياح شتاءها ,
ويغدو الربيع وهمَ عطور
لا يتذكرها التراب ...
تمتدّ ... تمتدّ ... تمتدّ ...
لا شمس ... لا دفء
في سلالات الغياب ...).
وهي بالفعل لم تعد تشتمّ رائحة الربيع , ولا تشدها كل العطور ,ولا عطر لها إلا حب الحبيب اللدود الذي تركها مبتورة الدفء تنشد على شرفات التيه قصائد الذكريات وقد قالت في صفحة 96 :
(... لا همس يطربني
غير همسك ...
لا ندى يرويني غير ظلال عطرك ,
فاسقني من لمى ثغرك
عذب الكلام ...
عطرني بك
ماء يروي حنيني ...).
وكم أضناها هذا الحنين , وأنهكتها أمواج الشوق وهي تجرفها لتغرقها في يمّ لا قاع له . وكم حاولت مباغتة الأمواج والرياح العاتية لتنقذ قلبها من دوامة التيه العنيدة , ولم تجد غير طيف الحبيب وهو يطفو فوق بريق الماء ونبضها ولهفة الإشتياق إلى قصيدة هي مرفأ النجاة . وفي منتهى الصمت تخلد للسكون ولآهازيج المساء وتناشد الطير المتقوقع بين فجوات الامنيات لتقول في صفحة 116 :
(... أيها العابر
بين غياهب الزمن
.............
كم انتظرتك في صمتي
حتى التصقت ساعتي بنبضي وهوسي
بتّ في قبضة الحلم
لا مفرّ منك ...ومني ...
بتّ على قيد الخيال
أتوسّد قصائدك ...أسطورة شوق
والحنين نهر مجنون
يهتزّ الدمع فيه
حتى أوج الوجع ...).
والمتابع لكل القصائد يلاحظ أن هذا الوجع بعد أن يكسّر الكلمات ,يتحول إلى عبء يدوس عنق القلم . ويلاحظ أن رائحة الحبر تشنج أحلامها , وأن المحبرة تبتسم ملء جفونها بينما في ذات اللحظة تبارز الشاعرة العاشقة أرقها بقصيدة فتقول في صفحة 75 :
(... عندما أبتسم من لوعة
تعتقت في صدري
تبكيني المحبرة
مدامعها طفولة الشوارع
وعناقيد التوت والعنب
أمد خيالي نحو نجمة
أقطف منها ضوءا
يليق بهذياني ...)
ومعها يتمادى هذا الهذيان ويتحول الوجع إلى جدائل وتلال .وحتى القلم يدمن أصابع الألم ويذبل بين عبث الغيمات فتصرخ صاحبة الجدائل في استسلام وتقول في صفحة 85 :
(...لمن سأكتب قصائدي
وأخبئ دفاتر حزني ؟
لا تاريخ يسعفني ...
عديمة هي ثورة الأقلام
في حضرة تحجّر المشاعر ...).
ولأن حبها يحلق في اتجاه واحد .ولأن الحبيب تحجرت مشاعره نحوها , صار في عينها شيء يبكي فتقول في صفحة 98 :
(...شيء في عيني يبكي
وقلبي يهدر بك
تمرّ اللحظات
في هباب العمر ,
نلجأ إلى الوهْم والصمت يفرّقنا ...
نلملم فتاتا من الزمن
من ثغر القدر
عسى نلتقي في ضحكة عابرة ...
وكما تعودنا
يمضي بنا قطار الغربة
دون أنْ ندري ...).
وبالفعل يمرّ قطار العمر سريعا وكلما تتوق الشاعرة إلى اللقاء بالحبيب تغيب في قصائدها وتغرق في الكلمات حتى الوجع , وينتهي بها الأمر إلى فقدان المشاعر لتعتصر آخر قطرة حب في محراب اللوعة وتأخذ قرارها في النهاية بعد أن تكتشف الحقيقة في مرآتها فتقول في صفحة 189 :
(... سأعيد تصميم فصول أنوثتي
وأكتم صقيع مرايا
اغتالني ...).
وهكذا نلاحظ أن الشاعرة زهرة النابلي التي قالت عن نفسها في صفحة 30 :
(... أنا إمرأة من الخيزران
ريحي جنوبية الجنون
لا يتقنها إلا العراة
من ثوب الوجع دون انحناء ...) .
ظلت وفية للحبيب الغائب وللوجع والمعاناة . وكم مدت خطاها لوهم يحدوه سراب الدجى والظلمات ؟ وكم عبث الترحال بصوابها الذي استعادته في آخر اللحظات ؟ وتكون بذلك كذبت ما قيل عن الخيزران من معتقدات .وأن جدائل إمرأة الخيزران كانت رغم الوجع من أجمل الكلمات .

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق