كيف حالك ؟
قراءة لسانية دلالية في قصيدة حبيب بن مبارك "كيف حالك؟
قصيدة نثر بطاقة تفجعية مأساوية اغترابية قصوى.
وكانني بالشاعر وبدرجة من التأزم غفل عن العنوان وأسقط عتبة قد تعرج بالمتلقي نحو غرض ما، قد يكون غزلا أو رثاء أو مدحا. هو إغفال متعمّد قد يكون تلهّفا على دلق كل ما خزّنته "الأنا" من وجع وجودي حاد بالكلمات عن المألوف والمعروف .
قصيدة بأسلوب انشائي لا يحتمل التصديق ولا التكذيب من شاعر مضطرب متمزق بين "الأنا " والأنا العليا " بإشراف والحاح من الهو المتسلط المشترك حسب تصنيفات فرويد مع مؤثتات التوتر بدءا بالطبيعة المتخاذلة المتواطئة مع النٌقص المكين الموجع انتهاء بحبيب غائب لا يبالي
القصيدة قامت على جدلية بين الموجود والمنشود بين موصوف ثابت بأعمال مرئية واضحة ومستفهم عنه غائب .
القصيدة كلها قامت فنيا على ركيزة أساسية مكرٌرة متكرّرة مع سبق الاصرار والترصد :
الاستفهام الانكاري وهو خير مترجم عمن يتخبط داخل قوقعة نارية حارقة بلظى الوحدة والتازم الوجودي.
جمل اسمية استفهامية مثلت عماد القصيدة وركيزتها محدثة إيقاعات تسارعيا تصاعديا مربكا متوترا
جمل تتراكم وتتزاحم كتزاحم الالم والأسى في نفسية "الأنا" الراضي حد الرضوخ وفق تصنيف "فرويد" للأنا الوسطية التوفيقية بين الأنا العليا الراضية جزئيا بمؤثثات الواقع وال"الهو"الشيطاني المتكفل بالإساءة إلى الأنا المعتدل الذي يريد جوابا توضيحيا لوضع كارثي اغترابيّ.
"كيف " وهو اسم استفهام عن الكيفية وردت خبرا لمبتدإ مركب اضافي "حالك" المضاف "حال " وهو الوضع المادي والمعنوي والمضاف
_اولا ،ضمير المخاطب "ك"
وللوهلة الاولى يظن المتلقي أن الاستفهام موجه لمخاطب حاضر أو غائب مضمر وقد يكون "الأنا" العليا المتمردة، غير أن الاستفهام باسمه وأسلوبه وأدواته يتراجع عن دلالته الحقيقية للبحث عن دلالة أخرى خفيّة مرتبطة ب"حالة" مشهديّة مرئيّة"
وانت تتعبد النجوم الخافتة
وسنابل الخريف المندثرة
فالاستفهام ليس عن الحال وانما عما تبطنه الشخصية وهي في "حالة تعبد" غير أن التعبد بعيد عن كل ما هو مقدس مألوف فلا إلاه ولا بوذا و لا بقرة ولا اللات ولا العزّة. بل هي
النجوم الخافتة
وسنابل الخريف المندثرة
و الشموع المنطفئة
عندما تكون المعبودة "نجوما خافتة أو شموعا منطفئة ..فإن "الحال" المستفهم عنها ستكون من جنس المعبود أو أشد انكسارا وذبولا واندثارا لأن الصفة الجامعة بينها هي النقص والضعف والخذلان الذي عكسه وضع شاعر مريب يتخبط بين الأنا الراضي والأتا العليا الرافضة.
لكن حدة النسق التصعيدي المربك يأخذ منعرجا آخر أكثر حدّة ليكشف الشاعر بأن السّائل والمسؤول واحد وان الخطاب تفجّعيٌ ذاتيّ لتتكدٌس الاشياء القريبة جدا من شاعر يسأل عن
مؤنسي..ورذاذ الاماني
والوسادة التي ملت رسائل الانتظار
رغم أن التدرج في الزمن يغري بانفراج في علاقة اغتراب بين الشاعر ومحيطه فالغربة الوجودية تجر الشاعر كي يسأل ما لا جواب له، الوسادة التي يجعلها في علاقة توتر مع رسائل الانتظار، استعارة كقرينة دالة على الليل الموحش ليشرك المتلقي في بناء المشهد الذي كان سيكون أفضل لو وصلت "رسائل الانتظار"
واستعارة الجدار الذي عصفت به رياح السنين. هل هو تشخيص ام كناية عمن لا تزعزعه الرياح وكيف حال أشعاره "المنحوتة على التلال العالية
بقطر الندى "
وقطر الندى كومضة عشق رومنطيقي هش تفسخه الرياح والعواصف والشمس دون عناء ومعها يفسخ الماضي الجميل .
هي الطبيعة المتنكرة المشاركة في توتر "الأنا" الذي بدا سلبيا مستكينا في مكان مغلق يناجي وسادة ويستفهم عن أشعار نحتت على التلال العالية بقطر الندى وأشرعة البدايات.في تحسر على ماض في مكان مفتوح بين التلال العالية وفي حضرة الربيع الزاهي .
هو الماضي الملح المتقابل المتعارض مع الحاضر '"المبشر"بمستقبل عاصف مرتبك قوامه الاضطراب والرحيل .
لتأخذ القصيدة منعرجا أوضح لكنه يخزن أسى ومرارة قطعت الشك باليقين حين يصرح الباثّ "أفتقدك يا أنا"
جمل فعلية اخبارية فعلها مستمر غير منقض "أفتقد"والذي لخص الوضعية الكارثية للباثّ وعوّض الجمل الاستفهامية، ليتصدر الجمل الاخبارية التقريرية المثبتة مع منادى هو في الأصل المنادي .هي الغربة الوجودية .عندما لا يجد "الأنا الأنا"فتلك الطامة الكبرى اهو انفصام ام عدم رضى ام سيطرة الأنا العليا المنادية بالثورة والتغيير الكلّيّ"
_النقص والبحث عن سد النقص
"ضلال الشجر ،
بوازغ الضحى .
وصوت فيروز الصباح
وصوت المطر.هذه المؤثثات هي التي كانت تجمل الحياة .هي التي أثٌثت البدايات في زمن انقضى وتم ليحشر ضمن الذّكريات المنغّصات التي تطل على الحاضر الكئيب الموحش.
الجزء الثاني تدرج الشاعر من المفرد المتكلم إلى جمع الغائبين "المتعبين" هم مجموعة جمع بينها التعب وصدى صوت الصمت والانين" عندما يصبح للصمت صوت بصدى يتردد فالوضع غير مرتب وفق المنطق والعقل .هي الفواجع والمآسي، هي المعاناة المشتركة التي تجعل الأنا جزءا من كل "متعب مظلوم" والشاعر وفي استطراد مربك يعود إلى "الأنا"
_في الجزء الثالث الأنا " وكان القضية ذاتية فردية مع مشاركة نوعية مع أمثاله المتعبين.
استئناف الاستفهام الانكاري يعكس وضعية متأزمة لأن الجواب معلوم معروف وهو مرتبط بالرحيل وكل مؤثثاته "القطار .مقعد العابرين .حقائب السفر .والتي لا سفر فيها" ليكون الحصر جازما في الرحيل "بالقصائد" هي الكلمة .هي القصيدة التي تثبت وتلازم ال"أنا" هي كل الزّاد والعتاد والمراد
هذا الانفصام بين "المخاطب والمتكلم ."حالك ...وعيناي...الأفق البعيد والذكريات التي ظلت تشحن الشجن المكين .هي إذن أنت بوجع وأنين جرّاء حنين لماض كان ربما جميلا يوما ما .
لتنغلق القصيدة كما ابتدأت باستفهام ووجع لن يتوقف عند "السطر الحزين"
ونهي "الأنا "فيه تحرر جزئي قد يفتح باب امل جديد .
قصيدة وجدانية تشد المتلقي ليبحث بين السطور والكلمات والمعجم الذي غرق في الاضطراب والتشظي بين ماض بعيد ولى وانتهى بكل مؤثثات الفرح وحاضر آس متوتر حزين لن يعدل من ضرٌه إلاّ الرّحيل.
حبيبة المحرزي
تونس
كيف حالك وأنت تتعبد
النجوم الخافته
وسنابل الخريف المندثره...
كيف حالك وأنت تصلي
للشموع المنطفئة وسجاد القمر...
كيف حال مؤنسي ورذاذ الأماني
والوسادة التي ملت رسائل الإنتظار..
كيف حال الربيع وبدر الكواسر
في الزحام الأبيض..
كيف حال الجدار
وقد عصفت به رياح السنين...
وكيف حال أشعاره المنحوتة
على التلال العالية بقطر الندى
وأشرعة البدايات..
وما حال إنسيابه وترانيم المنى
وفواصل الماضيات..
أفتفدك يا أنا و أفتقد ضلال الشجر..
أفتقد بوازغ الضحى
وأفتقد صوت فيروز الصباح
وصوت المطر...
كيف حال المتعبين
وصدى صوت الصمت والأنين
كيف حالك وأنت تنتظر
قطار المساء...
وتجلس على مقعد العابرين
و أمامك لافتة كتب عليها
حان وقت الرحيل ..
كيف حال حقائب السفر
وحقيبة سفري.. لا سفر فيها..
ولا شيء فيها سوى مدونة قصائدي
وعلبة سجائري المنكمشة
على ربوة االحنين..
كيف حالك وعينايا تقرأ
الأفق البعيد وكل الذكريات
ولا تتوقف عند السطر الحزين...
"حبيب بن مبارك"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق