الجمعة، 29 مارس 2024

حين تكتب المبدعة التونسية أ-نعيمة المديوني..برحيق الروح..ومداد الوجَع بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 حين تكتب المبدعة التونسية أ-نعيمة المديوني..برحيق الروح..ومداد الوجَع

"إذا أردتَ ألا تخشى الموت، فإنّ عليك ألاّ تكفّ عن التفكير فيه" (snénèque)
"البسمة كانت أمّي والفرحة هي أمّي وأجدني اليوم أسبح في مجرّات التّمنّي..ليت وجها منيرا يطلّ فجأة ليمسح من قلبي دمعا سخيّا..ليت وجعا سكن المكان يحلّ عنّي أستعيد ما ضاع منّي وأنسى للحظة أن أمي مازالت قربي.."( أ-نعيمة المديوني)
للوطن،للوالدَين،للحياة..للحزن،للفراق هي ذي أ-نعيمة المديوني أنثى مخضبة بالوجود،تخط مشاعرها بالحبر،وتنثرُ جنونها على الورق..هناك،حيثُ العقل،والقلب،والروح تسكنُ خاطرة، خاطرتان،عشرٌ،تخالط كل الحياة،بحبر الروح..ودم القصيدة..
الكتابة بالنسبة إليها عصف ذهني صادر عن تراكمات للإنسان،فيبدع في نسج تجاربه على شكل إيقاع يلامس النفس،ويغازل القلب ويحكم العقل،هي الفضفضات والآهات نسجت في قالب وحداتها البنائية تتمثل في الحروف،بتداخل التفاعلات تمزج فيحدث لها مختلف أنواع البلمرات فينتج من خلالها أجمل النصوص.
الكتابة هي ذلك الإعصار الذي يعصف بمملكتها،فتجد نفسها مجبرة على ترتيبها وهيكلتها وتنظيمها على أمل أن تسوقها على شكل موزاييكي يرمّم نفسها التي تشظت مزقا برحيل والديها..و"تصدّعت جدران روحها" حين أوغلت الأقدار في لسعها..
تتراقص كلماتها على وقع ذبذبات عصبية تحاكي الواقع المرير،آملة في غد مشرق قد يصنعه الدعاء الذي تتمسك به كمعين وسند لها في الدنيا،آملة في تغلبه على القدر.
تابعوا معي هذه اللوحة الإبداعية المضمخة بمواجع تحز شغاف القلب،نحتتها أنامل مبدعتنا أ-نعيمة المديوني :
حين رحل أبي رحمه الله تصدّعت جدران روحي..بكيْت..حزنت..تجرّعت مرارة الفقد..لكن وجدت في حضن أمي مرفأ لأحزاني وفي بحر حنانها مرقدا لآلامي..وحين رحلت أمّي ولحقت ببارئها آنسحبت الشّمس من دنياي وعمّ الظّلام المكان وماعاد في الكون ما يستحق التّنعّم وبالحياة وما يجلب الإبتسامة..استوى اللّيل بالنّهار وسبح البحر في الشّجن..توقّف الزّمان وأبى النّسيان..غاب منّي ماكان فيّ وحطّ فيّ ما علمته يوما عنّي..فبتّ غريبة عنّي شقيّة دونها ودوني..لست بأنا..الحزن عمّ مكاني وآستوطن روحي ووجداني..إن وجدتني يوما بين الأصحاب أضحك..فسرعان ما ينتابني الهذيان..وإن راودتني السّعادة فالشّجون إلى قلبي أسرع وقريبة من الوتين والشّريان..الكون كان أمّي..البسمة كانت أمّي والفرحة هي أمّي وأجدني اليوم أسبح في مجرّات التّمنّي..ليت وجها منيرا يطلّ فجأة ليمسح من قلبي دمعا سخيّا..ليت وجعا سكن المكان يحلّ عنّي أستعيد ما ضاع منّي وأنسى للحظة أن أمي مازالت قربي..أنعم بقربها..تحتضن أوجاعي..تسعد لأفراحي..تقاسمني أحلامي وتحميني من غدر الزّمان..لكن ليت لا تعود بي الى الوراء ولن تعبر بي شطّ الأمان..ليت عصيّة..شحيحة.. عنيدة..ستظلّ وسأظلّ حبيسة الدّمع والسّهاد..يكفيني من الحياة ذكرى حبيبة تنير اللّيالي الظّلماء..ذكرى أحبّ من الرّوح والولدان..
(نعيمة المديوني)
الحزن-يا نعيمة-"صديق وفيّ" لا يتركك أبداً بل يبقى معك تماماً كقرينك،يواسي جروحك ويخبرك بمدى قدرتك على تحمل المزيد من المرارة،بل يبني لك "مناعة" ضد الفرح الذي يعتبر علاج موسمي يأتي مرة ويغيب ألاف المرات.
نعم هو الحزن وما عسانا نفعل،فقط لنا اختيار واحد وهو الإسستلام للقضاء والقدر،الاستسلام للعيش في وسط مجتمع لا يهمه حالك ولا يفقه لما تريدينيه أو تحنين وتشتاقين إليه،هو نفسه من يجبرك على البكاء وكتم الصراخ داخل أعماق رئتك ليدمرها وليبعدك عن التنفس العادي الذي يتمتع به غيرك.
أعرف أن وجعك رباني،كما أعرف أيضا أن صبرك رسولي،لكنّك -يا مبدعتنا أ-نعيمة-لا تملكين في مواجهة القدر العاصف،والحزن الكافر سوى الحبر،وما من حبر يرقى إلى منصة الوالدَين حين يرحلا إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين.
وحتى حين يمور الوجَع في جسدك باحثا عن مخرج،فإنّك لا تجدين سوى الكتابة..فأكتبي لترميم خراب يسكننا جميعا في زمن مفروش بالرحيل.
الكتابة عن الراحلين تعادل حضورهم في الزمن،ووجودهم واستمرارهم في الحياة.
والصبر الجميل : هو الصبر الذي لا شكوى معه لغير الله-عز وجل-ولا يخالطه شيء من الجزع،أو التبرم بقضاء الله وقدره.
صبرا جميلا..ورحم الله والدَيك رحمة واسعة وأسكنهما فسيح جنانه وإنا لله وإنا إليه راجعون.
محمد المحسن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق