الثلاثاء، 31 يناير 2023

رسالة إلى ولدي/ قصة لــ محمد بن الحاج/مؤسسة الوجدان الثقافية


 قصة قصيرة

بقلم: محمد بن الحاج.
رسالة إلى ولدي.
عاد المهندس كمال من السفر صحبة زوجته "إميلدا" التي لم يعرف انه اسمها
المستعار إلا حين وقع عقد قرانه بها.
لقد تعرف عليها صدفة فاستحوذت على كيانه ومحت كل تاريخه .
كان ذلك ذات ليلة شتوية باردة حين دعاه احد الأصدقاء لحضور حفل عيد ميلاد
إحدى الطالبات في "فيلا"بضاحية "البلفدير"
كانت هذه الليلة بالنسبة إليه ليلة فارقة.اكتشف خلالها عالما جديدا لم يره حتى
في أحلامه،فهو شاب قروي المولد والمنشإوالكبرياء،قدم من أعماق الريف إلى
العاصمة هدفه الأوحد تحقيق حلمه في النجاح والحصول على الشهادة التي ستفتح
له آفاقا رحبة وتنتزعه من الفقر والضياع.
ليلتها جرب كمال السكر لأول مرة ،وتذوق السكر من شفاه شبقة لأول مرة،فضاع
منه صوابه ألف مرة ومرة.
كان حينها قد تحصل على شهادة تخرجه،وقد قضى كل سنواته في الجامعة في
منأى عن الجنس الآخر،فلم يكن له هوس بهن لشعور داخله بالخجل.فقد كان يكره
النظر في المرآة حتى لا يرى ذلك الندب العميق في جبينه، وكان حريصا على إخفائه
بخصلات من شعره.
في تلك الليلة،اقتحمت" إميلدا"عليه حياته،وحطمت كل الاسوار التي كان حبيسا
داخلها.وسقته من رضابها ترياق الشفاء والتحرر من كل تلك القيود، فبات طوع
يمينها.
كانت "إميلدا"الابنة الوحيدة لرجل ثري من كبار المهربين،تعيش مع والديها في قصر
بإحدى الضواحي الراقية بالعاصمة في ثراء متقع.سرقتها السنين وأغرقتها في عالم
الليل، ولم يتقدم لخطبتها من العائلات الموسرة أحد لعلمهم بمصدر ثرائهم ،وذاك ما
جعلها تعتبر المهندس كمال أملها الأخير.
وأصبح المهندس الشاب يحظى بالاحترام والتبجيل،وفتح له والد "إميلدا"أبواب
المال على مصراعيها.
غرق كمال في النعم وتناسى والدته العجوز التي افنت العمر في الكد والشفاء
لتوفر له ما تقدر على توفيره ليواصل دراسته.
لكن كمالا،ومنذ طفولته، لم يكن شديد التعلق بوالدته،بل كان يكره الظهور معها خشية
ان يراه رفاقه صحبتها فينادوه بابن"رقية العورة".
وصادف ان تفاجأ برؤيتها ذات يوم وهي تطرق باب منزله.فتجمد الدم في
عروقه،وعقد منه اللسان وتاه الرشد وضاع الصواب.فظل جامدا في مكانه
كالصنم،وكانت تلك اللحظات آخر عهده برؤيتها منذ ما يزيد عن عقد من الزمن.
ليلة عودته من السفر،بات كمال في حالة من الأرق.لم يدر ما الذي أصابه!لقد
أغرقته الذكريات عنوة في ماضيه الأليم.وتراءت له صورة والدته وقد اضنتها
السنين،يحضنها ذاك الكوخ الحقير في أطراف القرية. فشعر بالضيق وتأنيب الضمير..
وأقر العزم على تجاوز أمر طالما أرقه...
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا حين استيقظت "إميلدا"على رنين هاتفها
الخلوي..
كانت وهي تصغي إلى محدثها قد بدت على ملامحها علامات الذهول...لم تستوعب
الخبر!وسرعان ما غادرت المنزل وانطلقت بسيارتها تلتهم الإسفلت التهاما...
قطعت "إميلدا" بسيارتها أميالا لتجد نفسها أمام مشهد مروع...عجوز ممدة على
حصيرداخل كوخ ،جلد على العظم ،انطفأ البريق من عينيها ،وبقربها،جثا كمال على
ركبتيه جثة هامدة وفي قبضة يده رسالة اخذتها وراحت تقرؤها لعلها تجد أجوبة
للأسئلة التي تزاحمت في ذهنها...
رسالة إلى ولدي كمال
ولدي وقرة عيني
انت تعلم اني أفنيت العمر لأجلك
حرمت نفسي من اللقمة لتشبع
وتحملت برد الشتاء لتدفأ
وكأن أملي ان تريحني وقد بلغت أرذل العمر
ولكن ظروفك لم تسمح بذلك
فلا تحزن
إني قد غفرت لك كل ذاك
ولتعلم،
فإني وإن مت،
سيظل جزء مني يعيش معك إلى آخر عمرك
جزء وهبتك إياه لما تعرضت لحادث وانت طفل
وهبتك
عيني التي ترى بها الدنيا
وهبتك إياها حتى لا يلقبونك بالأعور
دمت بخير يا ولدي
أمك التي تحبك
رقية
محمد بن الحاج
تونس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق