الجمعة، 23 أبريل 2021

حين يمثّل الروائي والقاص التونسي القدير محسن بن هنية* على خريطة الرواية التونسية أيقونة مهمة لها خصوصيتها.،وحالة خاصة من حالات الشأن الروائي.. بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 حين يمثّل الروائي والقاص التونسي القدير محسن بن هنية* على خريطة الرواية التونسية أيقونة مهمة لها خصوصيتها.،وحالة خاصة من حالات الشأن الروائي..

"أنا أعيش في نفس الوقت الذي أعايش فيه الناس ولا أكتبها، وإنما أكتب عن الناس" (الروائي التونسي محسن بن هنية )
الإهداء: إلى كافة المبدعين الذين يمارسون فعل الإبداع..بجسارة من لا يهاب سطوة-الرقيب-
تصدير: ليس للكتابة من جدوى بلا همّ إنسانيّ كبير،ومن غير معاناة مخيلة حية للتعبير عن هذا الهم..هي انغمار متواصل للتنقيب عن كل ما ينفع منظومة البث على أداء دورها بكفاءة عالية، تغري منظومة التلقي على القراءة المنتجة للتأويل.وبوصفها إجابة لأسئلة
وجودية كبيرة،تستدعي مخيلة ذات دربة اشتغال تمنحها القدرة على إنتاج نصوص تنم عن جهد معرفي بيّن.
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الروائي التونسي المحسن بن هنية يمثّل على خريطة الرواية التونسية أيقونة مهمة لها خصوصيتها،وحالة خاصة من حالات الشأن الروائي الذي يجمع داخله ما بين المتخيل والسيرة ووقائع اجترار تاريخ الذات الاجتماعي والأيديولوجي في تجربة إنسانية وإبداعية مستمدة من واقعه الخاص الذي عاشه فعلا ومازال يعايش فيه مراحل تحولات حادة في الزمن العربي المعاكس..وتمثل مرآة الذات التي انعكست عليها مسيرة حياته الحافلة بؤرة كبيرة انعكست بدورها على إبداعه الروائي وشكلت عالمه السردي الخاص لسنوات طوال،كما تمثل صورة الآخر في منجزه الإبداعي جانبا مهما استعاده بن هنية في نسيج أعماله السردية جميعها وجسد من خلاله تجربة لها أبعاد متعددة كان لها تأثيرها الخاص على إبداعه الروائي على وجه التحديد بل وعلى ملامح أخرى من منجز الإبداع العربي المعاصر.وذات بن هنية في حد ذاتها وهي الباحثة عن نفسها،والمتفتحة على الآخر وعلى العالم من حولها تريد أن تدرك المعنى وتمتلكه.فكل علاقة للذات بذاتها هي علاقة بالعالم والآخر،كما أن كل علاقة بالآخر هي علاقة بالذات.وهذا (الازدواج) تعبير عن وحدة صميمية مفقودة بين (الأنا) و(الآخر) في عالم يشترك فيه أكثر سكان روايات بن هنية بشعور ومطامح سياسية متماثلة، وهو شعور يتجاوزهم بإستمرار نحو تأكيد خصوصية الوضع البشرى،حيث يكون الإنسان غائبا عن ذاته.يعيش المحسن بن هنية الرواية كما يجب أن تعاش،ويسرد ويروي وقائع الحياة كما يجب أن تسرد وتروى،وكانت ذاته في خضم هذا-الطوفان الإبداعي-مرآة للواقع الذي اختاره هو والذي كانت سطوة الآخر بصورها المختلفة دائما ما تشكّل تجاهه عقبة كؤود لواقع ما كان ينشده. فنراه يعيش شتات الذات ويرتطم بالآخر في شتى صوره،ويحاول هذا الآخر في ذات الآن بشتى الطرق أن يسقطه ويكسر حدة تمرده،ومن ثم تصادمت ذاته مع سطوة القمع عند هذا الآخر المتمثل أولا في السلطة المناوئة لفكره كما تمثل أيضا في صورة المرأة كما جسد خطوطها برؤيته وفلسفته الخاصة،وقد انعكس ذلك كله على منجزه الروائي الذى أبدعه عبر مسيرة حياتية لا تزال مفعمة بعطر الإبداع.وإذن؟العالم الروائي عند محسن بن هنية إذا،هو عالم قائم بذاته،يكاد أن يكون معادلاً للمجتمع الخارجي ترتبط عناصره ارتباطاً سببياًويستمد كل عنصر قيمته النسبية من علاقته بالأجزاء الأخرى،وتلتقي ممراته الجانبية وأزقته الخلفية بشارعه الرئيسي،فكل وقائعه منتظمة في إطار ثابت يحدد لكل واقعة وزنها الخاص،وقد تتساوى فيه إحدى النزوات الشخصية،فكل الأشياء المحيطة بنا قد اندمجت في شبكة من الدلالات الفكرية والإنفعالات الجاهزة؛ويتحدد شكل الرواية عند بن هنية بالفعل المتبادل بين الشخصيةووضعها،فرواياته تتميز من زاوية رئيسية بالطابع الانتقالي،بالصراع بين عدة متناقضات،بذلك التيار المتدفق المتغير دائماً في مواجهة التسلسل الطبقي المتحجر،إن ملحمة الحياة الخاصة عند بن هنية تتنفس بالدلالة العامة.وليست الحبكة الروائية عند بن هنية إلا حركة المقدمات لتجنب نتائج وفقاً لمقاييس مضمرة، فإن ما يحدث في النهاية هو التعقيب الأخلاقي والفكري على سلوك الشخصيات،وهو لا يختلف في ذلك عن سائر كتاب الرواية البلزاكية،فالخاتمة يحددها السياق الموضوعي العام لكل لحظات الفعل المتعاقبة،تدفع أخلاقاً كريمة وتلتزم بقواعد اللعبة وتأخذ نجاحاً أو العكس..ومن هنا،فإن الحبكة الروائية لدى بن هنية تنسج في صبر شبكة من “العلاقات”اللاواقعية خلف الإسهاب في سرد التفصيلات الواقعية،فالعلاقات السببية المحركة للواقع والمحددة للشخصيات تحتوي على تصورات مثالية عن الإنسان ومكانه في العالم،وهي تطبع بطابعها ما يسود تلك المرحلة من بحث عن قيم حقيقية في عالم يبدو زائفاً،بتحقيق الوفاق السعيد بين الإنسانية والأرض والسماء.على سبيل الخاتمة:ليس مشكلة في أن تستحيل كاتبا،فالمفردات والألفاظ مطروحة على-رصيف-اللغة،لكن الأصعب أن تكون ذاك الكاتب القارئ،وهذا الدور المزدوج يجعل الكاتب كرها ملتزما أمام قارئيه في أن يقدم لهم قدرا معرفيا ومعلوماتيا مهما يشارف اكتمال ثقافة الآخر الذي يجد ملاذه المعرفي عند كاتبه،هذا الدور قام محسن بن هنية عبر مشروعه الروائي الطويل،ومن خلال نثرياته المدهشة،وكبار الكتاب والشعراء من أمثال توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط مرورا بالاستثنائي محمود درويش وجمال الغيطاني وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وغيرهم كانوا يمررون قدرا معرفيا مذهلا عبر سياقاتهم النصية الإبداعية أو السردية مستهدفين خلق حالة من الوعي المعلوماتي لدى القارئ الذي اختلف دوره عن السابق بعد أن استحال شريكا فاعلا في النص غير هذه الشراكة الباهتة التي أشار إليها رولان بارت بإعلان موت المؤلف.فالمؤلف لم يعد ميتا كما استحال في سبعينيات القرن الماضي،ولم يعد إلى أدراجه القديمة منعزلا عن نصه،بل هو الصوت الآخر الذي يدفع القارئ إلى البحث عن مزيد من التفاصيل واقتناص الإحداثيات السردية بمعاونة الكاتب نفسه.والمحسن بن هنية الغارق في تفاصيل الوطن وتراثه الأصيل استطاع أن يوفر هذا الوعي المعلوماتي لدى قارئه الأمر الذي يدفعنا بأن نجعله في زمرة الكتاب الحجاجيين،أي الذين يمتازون بإقامة الحجة عن طريق تدعيم الطرح الفكري بطروحات فكرية وفلسفية ذات شراكة متماثلة بعض الشيء.يبدو هذا الطرح المعلوماتي في تفاصيل المشهد السردي للكتاب والذي نجح الشعر بقوالبه أن يفرض سطوته وقوته القمعية في إحداث التأويل والإمتاع ومن قبلهما الدهشة لدى القارئ من خلال الصورة والتصوير الفني لأحداث تبدو سياسية محضة،وفيها يدعم بن هنية طرحه الفكري بأفكار ومساجلات فكرية تؤدلج الدور السياسي للمثقف وأنه ليس بالقطعية تنظيريا أو مكتفيا بالمتابعة بدون المشاركة في صنع القرار السياسي،وأنه بمثابة أيقونة شرعية للحراك المجتمعي.ختاما أقول أنّ الروائي التونسي المحسن بن هنية يؤسس لسرد مختلف إذ تراه أشبه بالمسرحيين وهم يدشنون أسسا لفنهم،فهو كذلك في معظم رواياته،يعتلي مسرحا سرديا يقص التاريخ بعدسات غير متمايزة رغم أنه لا يدخل في قالب المسرح وكنهه،فهو لم يتبع القوالب الفنية الجاهزة لكتابة الرواية بل عمد منذ البداية إلى تأريخ السرد والحكي بصورة مغايرة لما اتفق عليه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حينما ازدهرت الرواية واستحالت إلى أفلام سينمائية ذات شهرة.فبرغم كون الرواية حدثا تاريخيا محضا يحكي سيرة رجل وعصر،إلا أن بن هنية لم يكترث بتصعيد الحدث التاريخي إلى سدة الاهتمام القرائي مثلما اهتم باستقطاب الدهشة والمتابعة لدى القارئ في التعرف على مزيد من الحكايا المرتبطة بالشخوص أكثر مما ترتبط بالأحداث التاريخية.فأنت تطالع شخوصا كثيرة مختلفة المهن والطبائع والأمكنة والثقافات،وفي كل شخصية أنت مضطر تماما إلى نسيان الحدث التاريخي المسطور في كتب التاريخ لإكتشاف ملامح أكثر دهشة عن طبائع هذه الشخوص،فتجد نفسك مهموما بتتبع تفاصيل شخصيات مثل العطار،والمؤذن..والمدير..والسكرتيرة الجميلة..وشخصيات أخرى كثيرة،وفي كل هذه الشخصيات لم يقع بن هنية في فخ التنافر والتفكك البنائي للحدث الرئيس بل استطاع أن يقبض بإحكام على متابعة القارئ للحدث.وأعتقد أن بن هنية منذ خطه لسطور روايته الأولى وضع رهانات جديدة للسرد الروائي وهي حضور القارئ بقوة رغم انفصاله زمنيا عن حدث الحكي.
ختاما أقول :
إنّ نجاح الروائي التونسي محسن بن هنية واضح في الاقتراب أكثر من روح مفعَمَة بالحضارة،وذلك برصد حركة الشخوص من خلال الزمن الذي أصبح مرئيّاً ومجسّداً يتكشّف من حقبة زمنيّة إلى أخرى؛ ليضيء المكان تدريجياً بوهجه الحضاريّ.
لقد أظهرت روايات بن هنية في مجملها زمناً عظيماً تغيب فيه الحدود الحقيقية للزمن؛ ليتشكّل الفضاء الروائي من وعي عميق بحضارة المكان وبعده التاريخي غير المحدود؛ مّا عمّق من أهمية الزمن الحضاريّ الذي احتوى فصول الرواية،أو حقبها الزمنية المكتنزة بقيم روحيّة سامية قادرة على مواجهة تناقضات الواقع،وماديّة الحضارة المعاصرة.
وفي التأكيد على الخط الواقعي في كتاباته من خلال سؤال طرحته له: "هل تتصور أدبا هو نتاج العقل الخالص والوجدان الخالص لا يخضع لظروف وأحكام الحياة اليومية والبيئة المحلية؟"
يقول بن هنية:
"لا يوجد في التاريخ تفكير مجرد. إن التشابه بين نظرية علمية ونظرية فلسفية وتيار أدبي أو فني برزت كلها في عصر واحد وبيئة واحدة. هذا التشابه هو أكبر دليل على وحدة الأصل. على أن التفكير ينبثق من الأرض،جذوره ضاربة في التربة والبيئة الاجتماعية ولا يحلق بجناحيه في السماء".
محمد المحسن
*
المحسن بن هنية : كاتب تونسي من الحنية بسيدي بوزيد .لظروف قاهرة لم يواصل تعلمه وتكون تكوينا ذاتيا وولع بالأدب .وكتب العديد من الروايات :
(1) " ثبات" عن دار التسفير الفني صفاقس 1998
(2) " أضغاث" عن دار التسفير الفني صفاقس 1998
(3) "الزمن و رؤوس الحية" عن دار التسفير الفني صفاقس 1999
(4) "على تخوم البرزخ" عن دار التسفير الفني صفاقس 2001
(5) "مرافئ الجنون " عن دار التسفير الفني صفاقس 2003
(6) " المستنقع" عن دار خطوات للنشر دمشق 2006
(7) " توق يحاصره الطوق" عن دار الالوان الاربعة للنشر 2011
كما نشر العديد من المجاميع القصصية :
(
" القمر لا يموت" عن دار التسفير الفني صفاقس 1999
(9) "دون الجهر بالكلام" عن دار الاتحاف 2002
(10) "الزهرة و الخريف" عن دار التسفير الفني صفاقس 2003
(11) "أحوال" عن دار خطوات للنشر دمشق 2007
وله بعض الأعمال السردية :
(12) "من فيض المكان" عن دار المعارف سوسة 2006
(13) " حديث الليل " 3 أجزاء عن دار الألوان الأربعة
(14) "موسوعة (سير و تراجم روائيي المغرب الكبير) 4 أجزاء بصدد النشر.
كما ترجم من أعماله إلى الفرنسية:
( الزمن و رؤوس الحية) le temps et les vipères
( توق يحاصره الطوق) espoir jugulé par le système
( حديث الليل) mots des nuits

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق