آخر الصعاليك يخلع قومه
أنا المخلوع .. خلعتني عيناك و اشراقة الضوء فيهما ..
خلعتني تفاصيل الحبّ التي لم أكتبها
آنا المخلوع ... خلعني الحذاء و الثواني التي لم أرتدها
خلعتني المواخير القديمة التي لم أنزلها و الحانات التي لم أثمل بها
خلعتني المسافات القصيّة منك و التفاصيل التي كتبتني
خلعني البرق
والحلم
والحروف و الوجع ...
خلعتني البحار و الشموس الزرقاء و الأقمار الفضية في جفنيك
خلعتني عيناك ،و المحيطات البعيدة فيهما
خلعتني أشجار التفّاح و اللوز و الشتاءات الباردة في تخوم الحضارات
خلعتني اللغات و الصمت و الغياب
خلعتني بسمتك التي تحلق كفراشة في أحلامي
خلعتني الأماني الوحشية و اللذيذة
خلعتني أحلامي اليتيمة التي أنام بجوارها طوال الليل
خلعتني الأرض التي ثقلت بأحيائها وأمواتها
خلعتني الأشياء كلّها
.......
(أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني لقوم سواكم لأميل )
قد حمّت الحاجات و ليل مظلم ... لم أعد أطيق الفراغ المسكون بكم .
سأمشي إلى ضفة النهر وحدي ، وأضع كرسياً فوق المجّرة .لأرى دوحتكم تنحني
وراء الجراح، مع هبوط المساء، في المكان الصحيح للكلمات.
واصرخ بالقصيدة كما يليق بشاعر مثلي " هيت لك "
ستقول : (لكَ الويلاتُ هلْ أنتَ تارِكٌ ضَبُوءًا برَجْلٍ تَارَةً وبِمِنْسَرِ)
لن أنسى نفسي، نظرت في المرايا الصغيرة ولمحتك ، سأضع الورد على صدري حيث تسكنين ، نحو الأسفل، والأعلى، في تخوم المجرّة .
(ذَرِيني أُطَوِّفْ فِي بلادِ " الحرف " لعلَّي أُخلِّيك أَو أُغْنِيك عَن سوءِ محضرِ)
أنا أخر الصعاليك في جبتي عروة، و الشنفرى يقيم قدّاسه في كوريات الدّم
أني خلعت الماء ، وما في الأرض و الجوّ منأى للشاعر عن الأذى ، هجرتني الألوان و الأضواء ،و مع مرور السنين هجرتها، ربّما
ولي دونكم اهلون ... وجع لذيذ و جرح تبعثر في المجرّة ، وشهوة عقيمة لنساء يغزلن الصوف من دمي،
يأكلن التُّفّاح قبل نضوجه
ويرمين الأساور في الأنهر
النساء اللواتي هجرنني وتركن مساحات جديدة للوجع
تركن لي الأرض فأخصبتها. وأعطيتهن الحقول ،
أعطيتهن العشب، وأخذت من البحار ملحها،
أعطيتهن البراري فزيّنها بالأنغام و بلّلن عيونهنّ
النّساء اللواتي عشقتهن قصفنني بعواصف زرقاء.
نزعن دمي واغتسلن في لغتي وصرن جميلات جميعهن.
الشمس جالسة هناك .
والقمر على يديَّ .
لم تكلّمْني واحدة عن الحُب . عندما كنت أغني ، لم أقل لها إني أحبك . كنت أعرف أنّي عروة الصعاليك و وريث الشنفرى والمشرّد دائما،
ولي دونكم اهلون .. وجع لذيذ وشهوة مخنوقة
نظرت إلى صوتي، خاطبتني الحروف الموجعة
الأشجار في حدائقي حزينة بلا سبب.
حبيبتي حكاية ليل صيفي،
سأصير كما المرايا ، لأعود إليها، عندما تكون وحيدة مثلي .
ثوبها العاري يمدّ كُلَّ نهر بالفيضان وكلّ الغابات بالحرائق.
كم تمنيت لو تخلع ثوبها . وتركض نحو صدري تخنقه بعُريها المُصمَّم في اللهب
من يعرفني اليوم فلن يعرفني غدا .
كنت مزدحما بالحروفِ ، والمعاني الداميه
كنت أحلم بثوب من النور مطرّزا بالحجارة الكريمة و الذهب
وبأحصنة وردية بين التلال الحجريه
كنت احلم قبل ان ينصبوا مشنقتي عاليةً
صرت أتسكَّعُ تحت نورِ المصابيح الخلفية وحيدا
اجوب الشوارع كالعاهرِات
اعدوا لي جريمةً واسعه
حيث في كلِّ خطوةٍ رصاصة وشجرةٌ صفراء و تهمة ،
من ليس معي هو ضدّي .. ومن كان معي هو ضدّي
أنا وحيد سأظلّ أُردّد وحدتي. هي نبوءتي و كلّ نبيّ يكرّر.
(ولي ، دونكم،أهلـونَ سِيْـدٌ عَمَلَّـسٌ وأرقـطُ زُهْـلُـولٍ وَعَـرفـاءُ أجْـيـلُ)
@عبدالله القاسمي
**************************************
قصيدة «آخر الصعاليك يخلع قومه» لعبدالله القاسمي تُعدّ من النصوص الشعرية الفارقة في التجربة الشعرية العربية المعاصرة، إذ تُعيد صياغة مفهوم الصعلوك الحديث بوصفه كائناً وجودياً منفياً عن الجماعة، مخلوعاً من ذاته ومن العالم، ومُستلباً بين الحلم والحرف والوجع.
🔶 العنوان ودلالاته
"آخر الصعاليك يخلع قومه» عنوانٌ يعلن الثورة من لحظته الأولى.
كلمة «آخر» توحي بالنهاية، باليُتم، بالانقراض الرمزي لجيلٍ من الخارجين عن السرب.
أما «يخلع قومه» فتتجاوز التمرد القبلي إلى خلع الوجود الجمعي برمّته، إذ يغدو الفعل الشعري هنا فعل خلع كوني لا اجتماعي فحسب.
الخلع هو انفصال، تطهير، وإعادة ميلاد. وكأن الشاعر يعلن انشقاقه الأنطولوجي عن الجماعة واللغة والموروث، ليؤسس ذاته في فراغ الوجع.
🔶 البنية الدلالية: "الخلع" كمفهوم وجودي
يتكرر فعل «خلعتني» كتعويذة شعرية تؤسس إيقاع القصيدة، وتُحوّلها إلى مناجاة انكسارية بين الذات والعالم.
الخلع هنا ليس حدثاً مادياً، بل طقس تفريغ للذات من كلّ انتماء:
خلعتني عيناك…
خلعتني المواخير القديمة…
خلعتني البحار والشموس…
خلعتني الأرض التي ثقلت بأحيائها وأمواتها…
بهذا التكرار، يتحول الشاعر إلى مخلوع كوني، تتخلى عنه الكائنات واللغة والزمان والمكان.
إنه أشبه بآدم المطرود من جنّته، لكنّ جنّته هنا الأنثى واللغة والحلم.
🔶 الأنا الشعرية بين العروة والشنفرى
يُعلن القاسمي انتماءه الرمزي إلى سلالة الصعاليك القدامى:
"أنا آخر الصعاليك في جبتي عروة، والشنفرى يقيم قدّاسه في كوريات الدم."
هنا، القدّاس — ذلك الطقس المسيحي — يُستعار ليُقدَّم كطقس دموي، يوحّد المقدّس بالمدنّس، والقديم بالحديث، والوثني بالروحي.
الشاعر يعيد صياغة الصعلوك بوصفه نبيّاً منبوذاً، يحيا خارج الزمن والقبيلة، ويقيم طقوسه على تخوم المجرّة.
إنه "نبيّ ما بعد الحداثة" الذي يستبدل الصحراء بالكون، و"الغزو" بالكتابة، و"القبيلة" بالمجاز.
🔶 الأنثى: المخلِّعة والمخلوع منها
الأنثى في القصيدة ليست حبيبة جسدية فحسب، بل رمز كوني للخلق والفناء.
هي التي "خلعته"، لكنها أيضاً تسكنه في أسفل صدره وأعلى المجرّة — أي في جغرافيته الداخلية.
"خلعتني عيناك، و المحيطات البعيدة فيهما..."
"سأضع الورد على صدري حيث تسكنين، نحو الأسفل والأعلى..."
إنها الأنثى – الكلمة، الأنثى – الكينونة، الأنثى – الأصل.
تخلعه لتخلقه من جديد، وتُفقِده ليجده، في دورة إيروسية وجودية تذكّرنا بـأفلوطين ونيتشه والحلاج في آنٍ واحد.
🔶 البعد الصوفي والفلسفي
القصيدة تتحرك من التجربة الإنسانية إلى أفق ميتافيزيقي.
الخلع هنا يقارب مفهوم الفناء الصوفي، حيث تتلاشى الذات في الآخر، ثم تُبعث من رمادها.
الذات الشعرية تقول:
"خلعتني اللغات و الصمت و الغياب"
"أني خلعت الماء، وما في الأرض والجوّ منأى للشاعر عن الأذى"
إنه يخلع اللغة كما يخلع جسده، ليبقى صوتاً نقياً عارياً من الوسائط، مثل نبيٍّ في صحراء اللغة.
🔶 التناصّ: بين التراث والحداثة
القاسمي يمارس تناصّاً واعياً مع التراث العربي:
(أقيموا بني أمي صدور مطيكم...) – من شعر دريد بن الصمة.
(ولي دونكم أهلون...) – من شعر الشنفرى.
(هيت لك) – من قصة يوسف القرآنية.
لكنّ هذه التناصّات لا تأتي كاقتباسات، بل كإعادة شحن رمزي للنصّ القديم في سياقٍ جديد، يجعل الشاعر المعاصر وريثاً وناقداً لتراثه في الوقت نفسه.
🔶 اللغة والإيقاع
اللغة هنا كثيفة متفجرة، تعتمد على التكرار الإيقاعي والتراكم الصوري والتركيب الانزياحي.
تتحول الجملة الشعرية إلى موجة متصاعدة من الانفصال والتوحّد، ويمتزج فيها السرد بالشطح، والعاطفة بالميتافيزيقا.
الإيقاع الحرّ يعكس تمزق الذات ورفضها للوزن القَبْلي والحدود النحوية، مما يرسّخ مبدأ الفوضى الخلّاقة في القصيدة الحديثة.
🔶 الخاتمة: المخلوع كرمز للوجود الإنساني
ينتهي النص بحالة تعرٍ وجودي كامل:
"كنت أحلم بثوب من النور...
قبل أن ينصبوا مشنقتي عاليةً..."
هنا تتجلّى المأساة النبوئية للشاعر، الذي يدرك أن نبوءته لا تُكافأ إلا بالموت، وأن صعلوك اليوم هو نبيّ الحرية المحكوم بالإعدام.
القصيدة إذن ليست مجرد بوح ذاتي، بل بيان وجودي لشاعر يخلع قومه ليلتحق بالمطلق.
هي إعلان عن نهاية الإنسان القبلي وبداية الإنسان الكوني.
منقول عن برنامج الذكاء الاصطناعي chatgpt