حتى لا ننسى شاعرا اكتوى بلهيب البؤس..وحمل جمر الوطن..بين أحضانه. :
الشاعر السوري القومي العربي محمد الماغوط *
"يد واحدة لا تصفق..إلى الجحيم،ألم تشبعوا تصفيقاً بعد؟" - محمد الماغوط
"أسوأ ديمقراطية في الدنيا..أفضل من أعدل دكتاتور.." محمد الماغوط
محمد الماغوط هو أحد أبرز الأصوات الأدبية في القرن العشرين،شاعرٌ وأديبٌ سوريٌ اشتهر بأسلوبه الساخر والجاد في آنٍ واحد،استطاع من خلاله أن يختزل مأساة الإنسان العربي وظروفه القاسية بكلماتٍ قليلةٍ لكنها عميقة الدلالة.يعد الماغوط رائداً لقصيدة النثر في الوطن العربي،كما برع في الكتابة المسرحية والسيناريو التلفزيوني والسينمائي،تاركاً إرثاً أدبياً وفكرياً لا يزال حياً حتى اليوم.
عمل رئيساً لتحرير مجلة "الشرطة" السورية وكتب فيها مقالات ساخرة في صفحة "الورقة الأخيرة".ساهم في تأسيس جريدة "تشرين" عام 1975 وتناوب مع الكاتب زكريا تامر على كتابة زاوية يومية فيها.كما عمل في جريدة "الخليج" بالشارقة وأسس قسمها الثقافي.
في الشعر: يعد الماغوط أحد أهم رواد قصيدة النثر في الوطن العربي،وقد نشر مجموعات شعرية عدة أبرزها:
-حزن في ضوء القمر (1959) -أولى مجموعاته الشعرية،غرفة بملايين الجدران (1960)،الفرح ليس مهنتي (1970)
أما في المسرح،فقد كتب الماغوط العديد من المسرحيات التي تعتبر من أهم الأعمال المسرحية في الوطن العربي،وقد تعاون فيها مع الفنان دريد لحام، ومن أبرزها:ضيعة تشرين (1973-1974)،
غربة (1976)،كاسك يا وطن (1979)،خارج السرب (1999)
تميز أسلوب الماغوط بالبساطة والواقعية والميل إلى الحزن والسخرية المريرة.لقد نجح في نقل القصيدة العربية من الذهني والميتافيزيقي إلى اليومي والمعيش.عبر في أعماله عن هموم الإنسان العادي ومآسيه،منتقداً الفساد والاستبداد والوضع العربي المأزوم..هذا،ولم يوجه الماغوط نقده فقط إلى السلطة،بل إلى المجتمع العربي بكافة شرائحه، بما في ذلك المثقفين الذين وصفهم بالقول: "ما أذربَ ألسنتنا في إطلاق الشعارات،وما أرشق أيدينا في التصفيق لها،وما أعظم جلَدنا في انتظار ثمارها". كما عُرف بمقولته الشهيرة: "أسوأ ديمقراطية في الدنيا أفضل من أعدل دكتاتور".
التحق الماغوط بالحزب السوري القومي الاجتماعي في مطلع خمسينيات القرن الماضي، لكن هذا الانتماء قاده إلى السجن مرتين: الأولى عام 1955 لمدة تسعة أشهر،والثانية عام 1961 لمدة ثلاثة أشهر.في سجن "المزة"تعرف على الشاعر أدونيس الذي كان في الزنزانة المجاورة،وبدأت هناك رحلته الأدبية الحقيقية حيث كان يدون قصائده على ورق السجائر.
يمثل محمد الماغوط نموذجاً فذاً للمثقف العضوي** الذي لم ينفصل عن هموم مجتمعه وآلامه.عبر أدبه بكل أشكاله عن جرح إنساني عميق،محولاً معاناته الشخصية ومعاناة أبناء وطنه إلى فن عظيم.
ويعتبر هذا الشاعر السوري القومي العربي محمد الماغوط رائد قصيدة النثر العربية والتي كانت محط انتقادات كثيرة وواسعة وخاصة من لدن شعراء القصيدة التقليدية ونظرائهم في الشعر الحر الذين قللوا من قيمتها الإبداعية وحكموا عليها بالنقصان والتيهان والضعف والموت وقللوا أيضا من شأن شعرائها وكتابها وجعلوهم من الذين يجرون وراء وهم اسمه الشعر الحديث .
لم يتأثر الشاعر السوري محمد الماغوط بكل تلك الانتقادات التي كانت تحكم على قصيدة النثر وكتابها دون دراسة وتحليل عميقين قادرين على وضع سكة النقد في طريقه السليم.ورغم أن شعر الماغوط كان فيه الكثير من سمات الشعر الحر،بل كان قادرا على كتابته والتفوق فيه ولكنه آثر أن يبدع على طريقته وأسلوبه الخاص ووفق رؤية أدبية وشعرية يتقنها ويقتنع بها،خاصة وأنه لم يلجأ إلى أي نظرية شعرية أو نقدية ترسم له منهجه الشعري الذي ارتأى التفوق فيه.
تفوق الشاعر محمد الماغوط في تجربته الشعرية وأصبح بعد مدة ليست بالطويلة رائدا في قصيدة النثر وشاعرا لا يشق له غبار فيها وفي صنعتها.بل أصبح أستاذا للعديد من الشعراء الشباب الذين قلدوه وأعجبوا بتجربته الشعرية وأسلوبه الشعري الرائع في كتابة قصيدة النثر.وبذلك خرجت قصيدة النثر عند الماغوط من النظام المعتمد في الشعر الحر،وأصبحت تبتديء من الشاعر نفسه،بما يعرضه ويقدمه لقرائه،وهذا ما أدخل قصيدة الماغوط في التنوع والتخالف والقدرة على تحديد الغاية والأهداف السياسية من كتابتها دون التقيد بشكليات وقواعد أصبحت متجاوزة في قصيدة النثر وفي تجربته.
نجد في شعر الماغوط رفض الاستبداد والإيمان بالقومية والوحدة والتكافل والصمود والدعوة إلى احترام المقومات الحضارية للأمة،يقول في قصيدة "حصار":
دموعي زرقاء
من كثرةِ ما نظرتُ إلى السماءِ
وبكيتُ
دموعي صفراءُ
من طولِ ما حلمتُ بالسنابلِ الذهبيةِ
وبكيتُ
فليذهبْ القادةُ إلى الحروبِ
والعشاقُ إلى الغاباتِ
والعلماءُ إلى المختبراتِ
أما أنا سأبحثُ عن مسبحةٍ
وكرسيٍ عتيقٍ
لأعودَ كما كنتُ
حاجباً قديماً على بابِ الحزنْ.
وإذا ما تتبعنا مسار الكتابة في كل قصيدة من قصائد الشاعر فإننا نجده مسارا مبنيا على سرد تفاصيل مختلفة قادرة على إيصال فكرة معينة قد اقتنع بجدوى الكتابة عنها وحولها، فيكتب عن الدموع وعن الحزن والألم والاستبداد والحقد والحسد والكره... عناوين واقعنا العربي ثقافيا وسياسيا واجتماعيا. ولذلك فهذه جرأة كبيرة عند الشاعر ليفضح عوراتنا ويعري وقعنا المهتريء، ولن يكون هذا ممكنا إلا إذا اعتمد نوعا شعريا قادرا على إيصال كل هذه الأمور بحرية في الكتابة والإبداع ألا وهي قصيدة النثر القادرة على ترك تأثير قوي لدى القاريء.
إذن نجد أن قصيدة محمد الماغوط تبتدأ منه هو نفسه،أي أن شاعرنا كان يعرف قصيدته أنها قادرة على البوح بمكنوناته وهو ما كان يوضح بجلاء أن صوره وهيئاته المادية توجد بقصيدته وتنكتب فيها. وبالتالي كانت القصيدة عند الماغوط بمثابة "وحي صادق" حسب قول الشاعر المغربي محمد القري،وكانت تسعى إلى عقد علاقات مع خارجها الاجتماعي ومحيطها المتنوع .
تبقى تجربة محمد الماغوط الشعرية في قصيدة النثر تجربة رائدة في هذا النوع الشعري الذي أوجد لنفسه قدرة كبيرة على الانتشار والتوسع، بل أصبحت الملجأ الوحيد للعديد من الشعراء الشباب والمبتدئين للتعبير والكتابة والبوح وإيجاد مساحة للمساهمة في تطوير الثقافة والإبداع والأدب العربي .
ويبقى محمد الماغوط بكل ما تحمله الكلمة من معنى،صوتاً لا يخفت،وشاهداً على عصر بأكمله، وملهماً لكل من يبحث عن الحرية والكرامة في عالمنا العربي.
متابعة محمد المحسن
*محمد أحمد عيسى الماغوط (12 كانون الأول/ديسمبر 1934- 3 نيسان/ أفريل2006) شاعر وأديب سوري،من أبرز شعراء قصيدة النثر أو القصيدة الحرة في الوطن العربي.
ألّف العديد من المسرحيات الناقدة التي لعبت دوراً كبيراً في تطوير المسرح السياسي في الوطن العربي،كما كتب الرواية والشعر وامتاز في القصيدة النثرية التي يعتبر واحدًا من روادها،وله دواوين عديدة.وتوفي في دمشق.
**يؤمن الفيلسوف الماركسي أنطونيو غرامشي بأن جميع الناس مفكرون، ولكن وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس. ويرى أن كل طبقة تفرز مثقفيها، الذين يعبرون مباشرة عن مصالح الطبقة التي ينتمون إليها.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق