الخميس، 18 ديسمبر 2025

على هامش ذكرى الثورة التونسية المجيدة بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 على هامش ذكرى الثورة التونسية المجيدة

لينشغل "أهل الربيع العربي"بأمورهم وأحوالهم،ويتركوا تونس تكمل تجربتها الديمقراطية


"مازال لم يفهم الأغبياء أنّ النضال طريق الخلاص..كلا..يا تونس..أنت المحال الذي لا يباع..وأنت التراب الذي لا يباع..وأنت السماء..وأنت القصاص.." ( مظفر النواب-بتصرف طفيف)


قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الديمقراطية بتونس انتصرت،وأنّ الأجواء بهذا البلد الإستثنائي غدت تعبق برائحة الوليد القادم:الحرية،لا سيما في ظل الرياح العاتية التي عصفت-بالربيع العربي-ببعض الأقطار العربية الأخرى..


وما علينا والحال هذه،إلا أن نحتفي جميعا بإنتصار الديمقراطية ببلدنا،ونواصل مسيرة الثورة بثبات حتى تنتقل بلادنا-تونس-من النظام الجمهوري المزيّف إلى النظام الجمهوري الديمقراطي.


ومن هنا،فإنّ أهم انجاز حققناه كتونسيين عبر الإنتخابات التشريعية/الرئاسية هو أنّ تونس بقيت شامخة في غابة " الربيع العربي" التي احترقت أشجارها في ليبيا ومصر واليمن وصولا إلى العراق”


الإحتراق الذي أتحدث عنه حدث بفعل التصدعات الداخلية داخل البيت العربي الذي هبّت عليه-بالأمس القريب-نسائم الثورة،لكنه لم يصمد في وجه قوى الردة،وغدا بالتالي مسرحا للإحتراب حيث السلاح اللغة الوحيدة السائدة بين الفرقاء السياسيين الذين غلّبوا النقل عن العقل فخسروا الإثنين معا: الحرية والديمقراطية..


والنتيجة الحتمية لتلك التداعيات الدراماتيكية هي أنّ تلك الثورات غدت رهينة لدى قوى خارجية،لا هم لها سوى اجهاض جنين الحرية داخل أحشاء الثورة،ومن ثم خنق كل نفس ديمقراطي أو مشروع وطني تحرري من شأنه أن يخلّص الأمة العربية من عقال الترجرج والتخلّف..


إنّ أهمية التجربة الديمقراطية في تونس،تتجلى أساسا في حملها لبذور الإنتشار في المنطقة،كما سبق لإنتفاضتها أن كانت الشرارة الأولى التي أشعلت"الربيع العربي".فمنذ نشوبها،أوحت الثورة التونسية بإمكانية التغيير،الذي طال انتظاره،كما أوحت بأن عملية التغيير في أوضاع معقدة ومتراكمة الرواسب،كما هو الحال في المنطقة العربية،يمكن أن تحصل،بصورة تدريجية انتقالية وسلمية،يجري الاحتكام فيها إلى عملية الاقتراع التي تفسح للمواطن فرصة للمشاركة في الحياة السياسية،طالما افتقدها،مع ما ترتب على هذا الفقدان من عواقب تدفع اليوم العديد من الشعوب العربية ثمنها..


أقول هذا لأني على يقين بأنّ قوة التجربة التونسية في الأفق الديمقراطي تكمن في أنها السبّاقة،التي حافظت على الأمل بالتغيير السليم،على الرغم من العقبات المتراكمة.


ولا شك في أن وعي الشعب التونسي،وتنوّع ثقافته وممارسته وانفتاحه،كان له الدور الأساسي في هذه النقلة النوعية المفصلية،التي يبدو أنها تمتلك طاقات للتطوير والترسخ،حيث تصبح عصية على مناخات العنف والإرهاب السائدة راهناً في عالمنا العربي..


ولكن..بغض النظر عن المنطق الحسابي،ورهانات الربح والخسارة،لايزال المشهد السياسي في تونس يفتقر إلى الإستقرار بصورة نهائية،بالنظر إلى حالة التشتت الحزبي وغياب القواعد الثابتة للأحزاب،مما سيفضي مستقبلاً-في تقديري-إلى تجمع القوى المتقاربة،إذا أزمعت تأكيد حضورها السياسي.كما أن سياقات الحكم في ظل حكومة- سارة الزعفراني-لن تكون سهلة بالنظر إلى الإستحقاقات التي ينبغي التعامل معها،خصوصاً في الملف الاقتصادي وأيضا الملف الأمني وعلى رأسه موضوع الإرهاب وكذا التهريب وتداعياتهما الدراماتيكية على الإستقرار السياسي المنشود..


هذه الملفات الشائكة تستدعي وعي عميق بجسامتها ومقاربة شاملة تبحث في الأسباب وتسخلص النتائج عبر رؤية ثاقبة،وهو ما يقتضي نمطاً من التوافق الضروري بين القوى المختلفة،إذا أرادت-حكومة الزعفراني-أن تحقّق استقراراً ونجاحاً ممكناً في إدارة ملفات المرحلة المقبلة..


لكن في جميع الأحوال،فإن الحكومة أمام تحدّي إقناع التونسيين بأدائها،فالخطاب الإعلامي للحكومة ضعيف ويتم بنسق بطيء في مرحلة حرجة،لا تقبل التسويف أو التواصل المتقطع بين صاحب القرار من جهة،وبين المتلقي وهو المواطن الواقف على الجمر،من جهة ثانية.


 مع ذلك،فإن معضلة الحكومة لا تقف عند إشكالية التواصل مع الرأي العام،وإنما أيضاً في ضرورة اتخاذ إجراءات أكثر جرأة في عديد القطاعات الحيوية.


على هذا الأساس،علينا أن ندرك جميعا أنّ الديمقراطيات إنما قامت على نمط من الإكراهات،وعلى صراعات سلمية بين القوى المختلفة،لتستقر في النهاية على نمط حكم قائم على توازي السلط وتقابلها ومراقبتها بعضها بعضاً،و كل هذا مشروط بتجنب العنف سبيلاً لحل النزاعات،ذلك أنّ ديمقراطية ما بعد الثورة في تونس قائمة على تعايش مفروض،وتوازن قوى واضح،سيدفع كل الأطراف،وبغض النظر عن أحجامها الانتخابية،إلى الإقرار بحق الجميع في المساهمة في بناء المشهد السياسي الراهن،ضمن الخيارات الكبرى للمجتمع التي تم التنصيص عليها في الدستور التونسي الجديد..


ويكفي أن نتذكّر ما ترتّب عن الحوار بين الفرقاء السياسيين من خيارات سياسية كبرى،تمثلت بالأساس في الإسراع بإكمال إعداد دستور جديد،على الرغم من أن الأمر لم يكن زمنئذ سهلاً،ولا متيسراً.كما ترتب عنه قبول أجندة تقضي بإنجاز الانتخابات التشريعية،ثم الرئاسية،في آجال محددة،وإطلاق الجمهورية الثانية في تونس بصورة لا رجعة فيها الأمر الذي ساعد على تخطي عتبة الانسداد الذي حصل..


ما أريد أن أقول..؟


أردت القول أن تونس في حاجة إلى تكاتف كافة مكونات المجتمع المدني وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية،ومن ثم انجاز مشروع مجتمعي طموح ينآى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن،الإثارة المسمومة والإنفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية،وهذا يستدعي منا جميعا هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام كافة المخاطر التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة لما جرى و/يجري في العراق وسوريا وليبيا..


أقول تونس اليوم دولة وسلطة ومؤسسات،أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية،ومع على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي إلا القطع مع-النهم المصلحي والإنتفاعي-المسيطر عليهم ومن ثم تخطي الطور الإنتقالي الجاري بنجاح،ووضع المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية،من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها،وذلك تطبيقا لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديموقراطية السليمة والسلوك الحضاري القويم.


لقد أنجز الجانب النظري من إمتحان الديمقراطية


بكتابة-دستور-ضامن للحقوق والحريات في بعدها الشمولي،ونحن اليوم-كما أسلفت-على أبواب مرحلة جديدة أشد عسرا وأكثر صعوبة وهي مرحلة تنزيل النظري إلى أرض الواقع وتطبيقه بشكل موضوعي وخلاّق..بمنآى عن الأيادي المرتعشة..والألسن المتلعثمة..


وخلاصة القول : إن تونس اليوم،وعلى الرغم مما تخلل مسيرتها من شوائب،إلا أنها باتت تشكّل بستان الأمل في وسط دياجير مكبلة لحالات عربية عديدة.وبذلك،هي جديرة بالدراسة المعمقة والمستفيضة،لعلها تساهم في العثور على مكامن التصحيح والتصويب اللازمَيْن والمُلِحَّيْن-


ولينشغل-في الأخير-أهل الربيع العربي-بأمورهم وأحوالهم،ويتركوا تونس تكمل


تجربتها،لأنها-ببساطة-خارج المقارنة و المنافسة..


وأختم بقصيدة مفعمة بعطر الثورة للشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي :


في عيدِ الثورةِ


في عيدِ ثورتِنا تنادَى حُلمُنا

وتكسَّرَ القيدُ الثقيلُ فأثمرا


قامتْ حناجرُنا تُغنّي حرّةً

ألّا يعودَ الليلُ سجنًا مُقفِرا


دمُ الشهداءِ في الطريقِ قصيدُنا

وبه كتبنا أن نكونَ وأن نُرى


يا موطنَ الأحرارِ هذا عهدُنا

أن لا نساومَ، فالكرامةُ منبرا


نمضي ولا نخشى العواصفَ إن أتتْ

فالشعبُ حينَ أرادَ كانَ  القَدَرا


هذي السنينُ إذا تعثّرَ دربُنا

علّمتْ خطانا أن نُجدِّدَ ما اعترا


لن تنحني راياتُنا مهما جرى

فدمُ الأباةِ على العهودِ  انتصرا


محمد المحسن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق