الاثنين، 1 ديسمبر 2025

النرجسية وتسلط أصحاب القلم بقلم الكاتب طه دخل الله عبد الرحمن

النرجسية وتسلط أصحاب القلم

حين نمعن النظر في فضاءات الأدب الواسعة، ونغوص في أعماق محيطاته الزاخرة بالدرر واللآلئ، نجد أنفسنا إزاء عوالمَ متداخلة، تتنازعها أضواءُ الإبداع الخافتة والواضحة، وظلماتُ الأنا الكامنة والظاهرة. فما إن تشرق شمسُ موهبة جديدة، يزين أفقَ المعرفة ضياؤها الوهاج، وتعلو في فضاء الفكر أنغامها الشجية، حتى تقوم قيامةُ الأنانية المتربعة على عروش المجالس الأدبية، وتنشب أظفارُ الغيرة المدعومة بسلطان القلم والنفوذ. إنها معركة خفية، صامتة المقدمات، صاخبة النتائج، تدور رحاها في صمت قاعات النقد وخلف كواليس المجلات ودوائر التكريم، لكن صداها يجلجل في أروقة الأدب كلها، ويُسقط في ساحة الوغى مواهبَ واعدةً كثيرة، قبل أن تُقطف ثمارها اليانعة، وقبل أن تعانق أساريرَها أشعةُ الشروق المُبشر بالجمال.

إن النرجسية الأدبية آفةٌ عظيمة، وداءٌ عضال، يعشش في نفوس من اغترّوا بموهبتهم، فظنوا - خطأً وغروراً - أن الأضواء يجب أن تظل مسلطة عليهم وحدهم، لا يشاركهم في بهائها مشارك، وأن الأصوات الناقدة يجب أن تبقى معلقة بأسمائهم فحسب، لا تذكر معهم سواهم. هم أولئك الذين يتخذون من أقلامهم سيوفاً مسلطة على رقاب غيرهم، لا أدواتٍ لرسم الجمال ونحت المعاني وبناء الصروح الفكرية. يحسبون كل لؤلؤة تبرق في غير صدفهم شظيةً لا تستحق الالتفات، وكل نغمة تُسمع من غير قيثارتهم نشازاً يجب إسكاته. ينسون - أو يتناسون - أن الأدب بحرٌ واسع، متلاطم الأمواج، تتسع أمواجه لكل شراع، تمخر عبابه السفن الصغيرة والكبيرة على حد سواء، وأن الروح الإنسانية متعددة الأوجه، متشعبة المشارب، لا يحيط بها وجهٌ واحد، ولا يعبر عنها صوتٌ منفرد، ولا يستأثر بتمثيلها حِبرٌ مهما علا شأنه وارتفع قدره.

وتتخذ هذه النرجسية الأدبية صوراً شتى، وأشكالاً متعددة، تارةً تكون إهمالاً مقصوداً، وتارةً أخرى تكون تشويهاً متعمداً، وطوراً تكون محاربةً سافرة. فكم من مبدع ناشئ، تفتقت موهبته عن زهرة أدبية ناضرة، قدم إنتاجه إلى مجلة أدبية رصينة، فقوبل بصمت مطبق وجفاء، لأن رئيس التحرير، أو المحرر المسؤول، يرى في ظهور هذا النجم الجديد غروباً لنجمه هو، وخبوّاً لضوئه الخاص. وكم من كاتب واعد أقام حفلاً لتوقيع كتابه الأول فنشر الدعوات وعلق الآمال، فلم يحضره من كبار الأدباء أحد، لا لانشغال ولا لعذر، ولكن لأنهم لا يرون في الساحة الأدبية متسعاً لغيرهم، ولا يحتملون أن يشاركهم أحد في بريق الأضواء واهتمام الجمهور. وكم من ناقد حاقد، ممن أُوتوا حظاً من البلاغة والبيان، شوّه عملاً أدبياً واعداً، ونثر عليه من سهام نقده المسمومة ما يكفي لقتله في مهده، لا لأن فيه عيباً حقيقياً، أو خللاً جوهرياً، بل لأن صاحبه تجرأ أن ينافس في ميدان كان الناقد يظنه حكراً عليه، ومرتعاً خالصاً له.

وهؤلاء المتسلطون بأقلامهم، المغرورون بمواهبهم، لا يقتصرون على هذه الأساليب المباشرة في الإقصاء والتهميش، بل ينطلقون إلى ما هو أخطر وأعمق، فينسجون شباكاً من العلاقات المعقدة، ويبنون تحالفاتٍ نفعيةً متينة، يكون الغرض الأساسي منها ترسيخ هيمنتهم، وتأبيد سيطرتهم، وإقصاء كل من يهدد عروشهم الواهية، وينازعهم في مكانتهم التي يتوهمون. إنهم يحولون الصالونات الأدبية، ومجالس النقد، وندوات الفكر، إلى قصور مغلقة، وقلاع حصينة، لا يسمحون بدخولها إلا لمن يُسَبِحَ بحمدهم، ويهلل لتفردهم، ويمجد أعمالهم، ويكون حاجباً على أبوابهم، حارساً لمصالحهم. ويجعلون من الجوائز الأدبية غنائمَ تُقسم على المقربين، وحصصاً تُوزع على الأتباع، لا تكريماً للإبداع الحقيقي، ولا إنصافاً للجهد الجاد، بل تعزيزاً للنفوذ والسلطان، وتثبيتاً للأقدام في دوائر التأثير. وهكذا تُختزل الحياة الأدبية، التي يفترض أن تكون رحبةً متسعة، في دوائر ضيقة، ومساحات محدودة، تتصارع فيها الأنا وتتناحر فيها المصالح، وتذوي فيها المواهب الحقيقية، وتخبو فيها جذوة الإبداع الأصيل.

ولا يقف الأمر عند حدود الإقصاء والصمت والتجاهل فحسب، بل يتعداه إلى ما هو أشد إيلاماً وأعظم أثراً، ألا وهو تشويه صورة المبدع المغضوب عليه، والنيل من سمعته الأدبية، بوصفه بالمبتذل أو الضعيف أو قليل الحيلة أو الخارج على التقاليد الراسخة. فيسلطون أقلامهم السامة، التي أفنوا عمرهم في شحذها وصقلها، لطعن مكانته، والانتقاص من فكره، وخلق هالة من الشك والريبة حول إبداعه، حتى إذا ما حاول أن ينهض، أو يعلو صوته، وجد نفسه محاطاً بسحب كثيفة من التهم الجاهزة، والانتقادات المغرضة، التي تذهب بجمال إنتاجه، وتطمس معالم تميزه. وكأنهم بذلك يرددون - وهم لا يشعرون - صدى مقولة الجاهلي: "ذروني فإني طالب ثأرٌ، وعائدٌ في أدبٍ منتصر". لكن ثأرهم هنا - للأسف - ليس ثأراً للفضيلة، ولا دفاعاً عن الجودة، ولا حرصاً على الأصالة، بل هو ثأر للأنا المتضخمة، والمنصب المهتز والمكانة المهددة.

إن هذا السلوك الدنيء، والمنهج الفاسد، لا يقتل المواهب الناشئة في مهدها فحسب، ولا يكتفي بإحباط الهمم وكسر الجناح، بل يسمم المنابع الإبداعية كلها، ويظلم الأفق الثقافي بأسره، ويحول الأدب من حوار إنساني راق، وتبادل فكري مثمر، إلى ساحة للصراع الشخصي الحقير، والمنافسة النفعية الضيقة. فالأدب في جوهره وجوهره حكايةُ الإنسان وسيرةُ الوجدان، وهو متى حُبس في زنزانة الأنا، وضاق بنفسه عن غيره، تقزم وتضاءل، وفقد رحيقه وعبقه، وانطفأ بريقه وضياؤه. والإبداع الحقيقي يتطلب تواضعاً أصيلاً، ونفساً منشرحة، فالأديب الحق هو من يرى في كل إبداع جديد فرحاً يضاف إلى فرحه، وجمالاً يضاف إلى جمال الكون، وثراءً يضاف إلى ثراء المكتبة الإنسانية، التي هي ميراث للجميع وملك للبشرية كلها.

فيا أصحاب الأقلام، يا من أوتيتم موهبة البيان، وحظيتم بنعمة التعبير، تذكروا أن الأقلام التي تحملونها أمانة في أعناقكم، لا ملكاً خالصاً لكم. أمانة لرقي الفكر، وجمال التعبير، واتساع الآفاق، وازدهار الحضارة. لا تجعلوها - حاشاكم - أدوات هدم وحقد، وبغضاء وحسد، بل وسائل بناء ومحبة، وتعاون وتكامل. واعلموا أن التاريخ الأدبي لا يذكر المتسلطين، ولا يحفظ للمتكبرين مكاناً، بل يخلد المتواضعين الذين أغنوا المكتبة الإنسانية، وساهموا في ارتقاء الوعي، وفتحوا أبوابهم وقلوبهم لكل قادم جديد، فرأوا في وجوده إثراءً لا تهديداً، وإضافةً لا منافسة.

وختاماً، إن الساحة الأدبية يجب أن تكون كالبستان، تتزاحم فيه الأزهار بألوانها المختلفة، وتتعانق فيه الأشجار بظلالها الوارفة، ويتعالى فيه تغريد الطيور بألحانها المتنوعة، فيكون الجميع في ظلال الجمال آمنين، وفي رياض الإبداع سعداء، ولكل صوت مكانته، ولكل لون قيمته، ولكل جهد تقديره. حينئذٍ فقط تزهر الأدبيات، وتثمر الثقافات، وتعلو كلمة الحق والجمال، ويكون الأدب حقاً ترجماناً للروح، ومرآةً للوجود، وجسراً للمعارف، كما أراد له الله أن يكون.

طه دخل الله عبد الرحمن

البعنه == الجليل

29/11/2025



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق