ا لفصل التاسع { التغيير }
و بالفعل بدأت في الخطوات على الفور ، وحصلت على إجازة سنوية من عملي ، و ساعدتني أُم زغلول و زوجها كثيرا في تحويل نصف الشقة لعيادة و الدعاية لي عند المدرسة و على مقهى المنطقة و عند الخيَّاطة والكوافيرة ، و انتشر الخبر سريعا عند وضع يافطة العيادة على واجهة البيت
كانت سعادتي بيافطة العيادة كبيرة ، فهي برأي بمثابة الإعلان الرسمي عن نجاحي و أنني بالفعل قد أصبحت الدكتورة جِيهان جابر ، و لم يُقلل من سعادتي بها إلا وجود اسم هذا الرجل بجوار اسمي ، و هنا تذكَّرتُ هذا الشبه الكبير بيني وبين عُوْدَه ، فكلانا بلا أحد ، فقط أنا أمتاز عنه بوجود صورة لوالديَّ معي ، أعرف ملامحهما واسميهما كانت العيادة هي الأولى بمنطقتنا تقريبا التي تختص بالأطفال ، و كانت سنوات عملي بالقصر العيني قد أكسبتني الكثير من الخبرة العملية التي أفادتني كثيرا في العيادة و جعلتني أشتهر بنجاحاتي في مُعالجة الحالات التي تأتيني هنا ،
و كانت المُعاناة الوحيدة في كَون العيادة بنفس بيتي هي أن المرضى يأتون في أي وقت من اليوم حتى و العيادة مُغلقة ، ولم أكن أملك أخلاقيات رفض استقبال مريض و خاصة الأطفال .
عِشنا هكذا أنا وعُوْدَه ، حياة هادئة جميلة كلها استقرار ، هو في مدرسته ، و أنا في عيادتي ، و لم يكن ينقصنا إلا وجود أُمي معنا ، و كأن الأقدار تقول لي كل شيء لابد و له مُقابل ، فعيادتي هذه باستقرارنا كان مُقابله غياب أُمي ، هكذا فهمتُ الأمر
الفصل العاشر
{ اعتراف }
كَبُر عُوْدَه كما كَبُرتُ أنا أيضا ، لا أنا تزوجتُ ، و لا هو عاد لأهله .و كبرت العيادة أيضا ، فصارت الشقة كلها عيادة ، و غادرنا نحن البيت لمكان آخر ،
و كبرت العيادة واشتههرت بل صارت أهم عيادة في حلوان وماحولها
، حتى أن أطفالا كُثر كانوا يأتون لي من مناطق لم أكن أتخيل أن يأتيني منها أحد ، و بقدر سعادتي بكل هذا ، بقدر حزني لانتشار بعض الأمراض التي كانت تُلاحق الأطفال أكثر ، مثل شلل الأطفال و الحصبة و التيفود و البلهارسيا ، و زاد الأمر سوءا حين انتشرت أيضا الكُوليرا و بدأت حملات التطعيم تنتشر في كل رُبوع مصر ، و كنت دائما أخاف بل أرتعد خوفا على عُوْدَه من أن تنتقل إليه أياً من هذه الأمراض ، فكنت دائما ما أحذره من الخروج من غرفتنا وقت العيادة أو وقت وجود أطفال حتى أكون مُطمئنة عليه ، و عُوْدَه بذكائه المعتاد كان يفهمني بسرعة و لا يحاول فعل إلا ما أقوله له
كل هذا عشناه معا لسنوات وسنوات ، و لم يمنع كل الحرص عنه المرض مثله مثل كل الأطفال ، و كنت أنا طبيبته و ممرضته ، و كنت أُعلن دائما حالة الطوارئ القُصوى بالبيت و العيادة ، فلا شيء أهم من عُوْدَه حبيبي حتى يتماثل للشفاء
_ انت خايفة علي يا جِيهان ؟
_ طبعا يا حبيبي ، هخاف على مين غيرَك يعني ؟
_ مش انت دكتورة شاطرة ؟
_ أه شاطرة ، سيادتك شايف غير كده و لا إيه ؟
_ طب إزاي دكتورة شاطرة تخاف على مريض بقى ؟!
_ عشان يا حبيبي فيه حاجة اسمها مرض ، و حاجة اسمها قدر
_ مفهمتش قصدك ياجِيهان
_ انتِ بس عليك تاخد العلاج و تاكل كويس و ترتاح في سريرك ، ده بس اللي أقدر أقولهولك و انشاء الله هترجع تبقى كويس
ولم أستطع أن أشرح لعُوْدَه أكثر من ذلك ، و هو لاحظ ذلك فسكت ، من نظراته أعرف كل مابداخله و هو يفهمني بنفس القدر
ثم فاجئني بسؤاله :
_ هو انتِ ياجِيهان بتخافي كده على كل الأطفال اللي بيجُولك العيادة ؟
_ طبعا يا عُوْدَه ، و لو كنت أقدر كنت رُحت لكل طفل مريض لبيته عشان أطمن أكتر
_ أنا محظوظ أوي يا جِيهان
_ ليه يا عُوْدَه ؟!
_ عشان بعيش هنا معاكي ، انتِ طيبة أوي
_ و أنا محظوظة كمان
_ ليه بقى ؟
_ عشان معايا ولد حِليوة كده عاوزة أَكْلُه هَم هَم
هكذا عشنا حياتنا ، و ها أنا أقف أنتظر خروج عُوْدَه مُرتديا بدلة زفافه من غُرفته في بيتنا الجديد الذي انتقلنا إليه بعد ما اشتهرت عيادتي وانتشر اسمي ، والبيت هنا في حُلوان أيضا يُطل على نهر النيل ، و قد تخرَّج عُوْدَه من كلية الإعلام بتقدير جيد جدا مما ساعده في أن يُصبح مُذيعا بإحدى القنوات العربية التي تنطلق من القاهرة ، و كانت إطلالته على الشاشة لايمكن أن تفوتني أبدا مهما كانت ظروفي ، و كان يعلم تماما أني أجلس أمامه أُتابعه بصوته الجميل و ابتسامته الساحرة ، و كان في برامجه دائما ما ينظر لي و هو يبتسم فأعرف ماذا يريد أن يخبرني به لحظتها ، و حين يرجع للبيت كنت أسأله فيضحك و يقول :
_ كنت مُتاكد إنك هتفهميني
و عروسه التي اختارها قلبه هي نَجوان صبري صحفية
و أديبة كانت ضيفته في أحد برامجه ذات صباح ،
و للصدف الغريبة كانت نجوان تعيش في بيت أهلها المُطل على مركز شباب المعادي الذي كان سيلعب فيه عُوْدَه
و هو صغير يوم وفاة أُمي ، و كأن الأقدار تقول له { سواء لعبتْ الكُره بالنادي أو ذاكرتْ واجتهدتْ فسوف تتزوجْ من هُنا }
و في أول لقاء لها مع عُوْدَه نظر لي يومها أغرب و أجمل نظرة ، يومها عرفتُ أنه لن يجعلها تفلت من يده و قلبه و عقله ، فأسلوبها و تفكيرها و رقِّتها في هذا اللقاء بمثابة إعلان طواريء بداخل عُوْدَه
يومها حين رجع للبيت كانت فرحته قد دخلتْ لي قبله حتى أنه ارتمى في حضني و هو يصيح
_ لقيتها ياجيهان لقيتها هي نَجوان يا جِيهان خلاص
و لم يقطع استغراقي هذا إلا أجمل مشهد عشتُ كل عمري أنتظره و أحلمُ به ، حين رأيته واقفا أمامي ببدلته السوداء ذات القميص الأبيض و البيبيونة الرقيقة التي تُزين رقبته السمراء ، فأمسكت المشط أُسرح له شَعره كما تمنيت و أنا أُسرح شَعره و أضحك في أول يوم دراسة له بالصف الأول الابتدائي
فانحنى على يدي يُمسكها و يُقبلها بمُنتهى الحنان
و العرفان و يُقبِّل رأسي الذي اكتسى بالشعر الأبيض مُبتسما قائلا :
_ جِيهان ، يا أعظم سِت في الدنيا
_ نعم يا قلب جِيهان
_ لازم النهاردة أقولك أمر مهم قبل ما ننزل
_ خير يا حبيبي ، مالك؟
_ أنا مِخبِّي عليكي حاجة مهمة من زمان أوي ،
و خايف تزعلي مِني ، و مقدرش أنزل النهارده قبل ما تعرفيها
_ مِخبِّي ؟! من إمتى خبينا حاجة عن بعض ياعُوْدَه !، خير هي إيه ؟!
_ من يوم وفاة ماما فردوس و أنا فاكر كل حاجة عن أهلي
_ فاكر ؟! بتقول فاكر أهلك ؟! فاكر كل حاجة ؟!
_ أيوة يا جِيهان فاكر من يومها
_ و ليه خبيت عني ؟ و كان قصدك إيه ؟!
_ خبيت عشانك ، و عشان كنت عاوز أفضل عايش معاكي
_ و أهلك ، ليه مفكرتش في أهلك يا عُوْدَه ، في أُمك وأبوك وإخواتك ؟
_ و أسيبك لوحدك إزاي و انتِ أمانة ماما فردوس في رقبتي ، فاكرة يوم وفاتها ؟ كانت ماسكة إيدي أنا ،
و إيدي التانية ماسكة إيدك
_ أنا كمان وقتها فكَّرت في كِده ، و حسيتها بتقول لنا نفس الكلام ده
_ جِيهان اللي من أول لحظة شافتني فيها و حضنها الدافي الحنون عمره ما اتخلى عني ، و بسببي رفضتْ أول عريس ، و وهبتْ كل حياتها عشاني أنا و بس ، إزاي أفكر لحظة واحدة أتركها و أرجع لأهلي
_ و لا مرة رُحت تشوفهم حتى ؟
_ و لا مرة ، خُفت أضعف
_ كان من حق أُمك تشوفك و تضمك لحضنها و تفرح بيك يا عُوْدَه
_ أُمي عندها غيري أربع بنات كمان أكبر مِني و يمكن فيه حد كمان أصغر مني ، الشجرة يا جِيهان اللي فيها ثمر كتير مش هيفرق معاها لو نقصت ثمرة ، أما الشجرة اللي فيها ثمرة واحدة ممكن تمرض و تموت كمان لو فقدت الثمرة دي
_ يا حبيب قلبي ، شُفت إزاي بقى كان ليَّ حق أحبك و أهتم بيك و أعيش حياتي كلها عشانك
_ مسامحاني يا جِيهان ؟
_ أسامحك ؟! ده أنا هقطم رقبتك ههههههه
_ بحبِك ، بحبِك يا جِيهان عمري كله
_ يلا ننزل عشان عروستك زمانها جاهزة في الكوافير من بدري
_ استني استني ، تعالي الأول نبوس سوا ماما فردوس قبل ما ننزل
نزلنا بعدها من بيتنا يومها و الفرحة تكاد تطير بي في السماء ، تُريد أن تأخذني لكل الدنيا ، تريد أن تُعلن عن نجاحي الأكبر ، أكاد لا أُصدق ما يحدث ، عُوْدَه حبيبي بعد قليل سيُصبح أجمل عريس ، ليتك معنا يا أُمي ، أعرف أن روحك لن تتركنا هذه الليلة ، أعرف أنك الليلة في مِثل سعادتي ، و أنك ستُقبِّلينه في جبهته قَبلي ، و أعرف أنه مثلي يشعر بوجودك حولنا ، فلم يستطع مُغادرة البيت قبل أن يُقبِّلك و يستأذنك للذهاب لعروسته
و أخرجتني من هذه الحال زغرودة أُم زغلول التي كانت تنتظرنا أسفل البيت بسيارة زوجها ،
أما أنا فركبتُ بجوار عُوْدَه في سيارتنا المُزركشة بما يليق بسيارة عريس
انتظروهما غدا