الأربعاء، 22 ديسمبر 2021

رواية : ( ملحُ السَّراب )مصطفى الحاج حسين /جريدة الوجدان الثقافية


 /// مصطفى الحاج حسين .

رواية : ( ملحُ السَّراب )
الحلقة الحادية عشر :
من نافذة اختناقها تطلّ على الزّقاق الضّيق ، بشغفٍ جنوني ، تتلقفُ تلهفه ، قلبها الغضّ يخفقُ بصخبٍ ، ولعينيهِ المتوسّلتينِ تطيّر إبتسامة من دمعٍ . لكنّ وجه ابن عمّها المقيت رضوان ، يبرز فجأة أمام غبطتها ، فتجفلُ وتصفعها حقيقة خطبته لها ، ترمق خاتمها الذي يشنق أحلامها بإزدراء ، ترتدُّ نحو انكسارها ، تغيب مخلّفة وراء النّافذة حسرة في قلب " فتى النّافذة " .
* * *
بعد توسّلات مذبوحة ، وإلحاح مستميت ، تشفق الأم على كآبة ابنتها سميرة ، فتفرج عن جناحيها لبعض الوقت .
يبرق قلبها من الفرحة ، يذوب جليد الرّوح
وتسري في الأوردة مراكب الأماني البيض ... سيلتقيان .. وتتشابك الأصابع بارتعاشها ، تحتفي بخطواتهما الأرض ، تحتضن الدّروب فراشات بوحهما ، والغيوم البيضاء تطال جنون الهمسات .
أشهر مضت على إعلان حتفها ، قابعة خلف كثبان أحلامها مع خاتمها اللعين ، تراقب باختناق حاد تحرّكات وليد " فتى النّافذة" القلقة .
- أتريدين شيئاً من أمّ رضوان ؟ .
تردّ أمّها المنهمكة بترتيب قبرها الأثير :
- بلّغيها السّلام .. لكن إياك والتأخر .
* * *
تندفع نحو الباب ، كسحابةِ شوقٍ ، ترقصُ خلجاتها على إيقاعِ الانعتاق ، تسبقها عصافير التّوق متقافزة فوق أحجار الطريق المرصوفة .
ومن بعيدٍ تلمحُ فتاها وليد يتتبّعها ، فيشتعلُ الصّهيلُ في نبضها ، يرفرفُ دم اشراقها ، جناحاها يغرّدان ، وهي تقاومُ رغبةً في الالتفات :
- (( مجنونة ماذا لو افتضح أمركِ ؟؟ .. ستذبحينَ كعمّتكِ ... سيذبحك سامح ورضوان .. ارجعي .. ارجعي يا سميرة )) .
تنأى بارتباكٍ شديدٍ عن الحارة ، تتغلغلُ في أزقّةٍ متطرّفة ،الخوف يثقل قدميها ، أنفاسها تزعق برعبٍ :
- (( ارجعي .. ارجعي .. قد يصادفكما ابن عمّكِ رضوان .)) .
تتباطأ حائرة ، وبعيونٍ متلصّصة تمسحُ المكان من حولها ، تلتفتُ ، تتمهّلُ ، لتقصّر المسافة بينهما .
* * *
يتصاعد الخوف مشوباً بالحذرِ في قلب وليد ، ينبتُ لهما أنياب شرسة ، مدركاً خطورة المغامرة ، يمسكُ خطاهُ عنها :
- (( لن أقامر بها وبي ، لن أشاطرها جنونها .. ماذا لو طاوعتها ؟!؟! .. سيقول أبي :
- فضحتنا ياكلب ، جلبت لنا الدّمار ، ولأهلها العار ، ثمّ هل تجدنا قادرينَ على مجابهةِ عائلة "الرّضوان" ؟!.. سيقتلونكَ ، ونحنُ لن نموت من أجلكَ . )) .
* * *
بجوارحٍ مشرئبةٍ متيقّظةٍ لوصولهِ ، تتخيّلُ سميرة ما سيدورُ بينهما من حوارٍ :
- مرحباً .
- أهلاً وليد .
متحرّراً من تلعثمهِ ، حاثّاً خطاه بمحاذاتها :
- كيفَ أحوالك يا سميرة ؟.
وبنزقٍ تضعُ سميرة حدّاً لمقدّماتهِ :
- " وليد " يجبُ أن نجدَ حلّاً .
* * *
أفاقت من شرودها على تأخرهِ ، شارفت على تخومِ البلدة ، بجرأةٍ تستدير، فتصطدمُ بخيبةٍ متوحّشةٍ ، تنقضُّ على جناحيها الأبيضينِ ، حينَ لا تبصر أحداً يتعقّبها .
ينتحرُ بريق عينيها ، أغصان بهجتها تتقصّف
يجفُّ نسغ الانعتاق ، وتتهشّمُ مرايا السّماء، فوق قفار روحها ، بينما تجأر أعماقها النّازفة :
- آهٍ .. " وليد " لماذا الفرار ؟!؟!.
* * *
في زقاقٍ متهدّم تلمح الشّمس الآفلة وليد " فتى النّافذة " لاهثاً بانهزامه ، يجرُّ غصّته بمشقّةٍ ، وفي وجدانهِ الجّريح تتعاركُ الأسئلة :
- سامحيني " يا سميرة " .. لن ألحق بكِ العار. أهل بلدتنا لا يعرفون الرّحمة ، رضوان ابن عمك حيوان شرس ، ليتنا " يا سميرة " ولدنا على كوكبٍ آخر .
* * *
مضرّجةً بخيبتها تعرجُ على قبرِ " مريم " ابنة عمها وصديقتها الوحيدة .. وهي كاتمة لأسرارها ، تحملقُ مريم في أخاديدِ الدّمعِ ، تشهقُ بالسؤالِ :
- هل التقيتما ؟!
تندُّ عن أوجاع سميرة صرخة مسكونة بالموت :
- انهزم .
تتكوّر الصبيّتان المنكسرتا الأجنحة ، تبكيان أحلامهما بضراوةٍ ، ذليلة تنكفئ الشّمس ، وبفظاظةٍ ينبثقُ ليلٌ من عويلٍ أسود ، يسربلُ حلمَ المدينة .
مصطفى الحاج حسين .
حلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق