‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 2 أغسطس 2024

العين بالعين ـــــــــ ماهر اللطيف


 العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم.

بقلم: ماهر اللطيف
نادى ابنه البكر، وهو على فراش الموت يلفظ أنفاسه الأخيرة، طلب منه غلق باب الغرفة التي يقيم فيها والبقاء بجانبه وحيدين لبعض الوقت ليتحادث معه، ويسلمه مشعل قيادة العائلة بعده قبل الرحيل النهائي.
وكان أفراد العائلة يبكون، يتحسرون، يحاولون أن يتماسكوا، ويستبسلوا ويتجلدوا، يصبروا خاصة أمام الأب الذي كان يتألم كثيرا من جهة، ويذكر الله باستمرار، ويرحب بالموت ضاحكا من جهة أخرى ...
وكان صوت عبد الباسط عبد الصمد - بطلب من الأب - يصدع في كل المنزل ومكوناته، ويؤثثه بسور قرآنية متتالية أبدع في تلاوتها بطريقته الخاصة وصوته الشجي.
فأمر الوالد ولده أن يجلس بجانبه، وينصت إليه جيدا لآخر مرة - وقد أحس بدنو ساعة الفراق - ، فحادثه بصوت خافت مدة من الزمن قبل أن يعطيه ورقتين صغيرتين مطويتين بحرص شديد حتى بدتا صغيرتا الحجم، إثر وعد الابن لأبيه أنه لن يفتحهما، ويطلع على ما فيهما إلا بعد مماته وغسله وتكفينه وقبل دفنه، وأنه لن يعلم أحدا بفحوى هذا اللقاء حتى يحين موعد ذلك لاحقا.
وما إن أتما هذا الحِوَار، حتى نادى الأب الجميع، ابتسم في وجوههم، أوصاهم توصياته الأخيرة، وحثهم على الحب والتضامن والوحدة والتآزر وغيرها من القيم التي زرعها فيهم طيلة حياته بمعية زوجته التي ماتت منذ سنوات عدّة من جرّاءِ مرض خبيث ألم بها، ولم يعتقها حتى زهق بروحها، ثم طلب منهم تركه وحيدا لمناجاة ربه وذكره في انتظار قدوم عزرائيل وإتمامه مهامه.
ولم يطل الأمر حتى توفي الأب في يومها، وساد المنزل الحزن والأسى واللوعة، وبكى الجميع بمن فيهم الجيران والجدران ومزروعات فَنَاء المنزل، وحتى الحيوانات التي ألفت المَيْت، وألفها في كل مكان ناهيك وأنه ذو سيرة حسنة وأثر طيب.
وما إن غسل الميت، وألبس كفنه، واستعد الناس لدفنه حتى أمرهم الابن الأكبر بالتريث وانتظار عودته تنفيذا لوصية أبيه التي رفض الإفصاح عنها الآن حتى رجوعه، - وقد اطلع على محتوى الورقتين، وتذكرهما ما إن حل الموعد حسب الاتفاق بين الطرفين المتعاهدين - ...
فخرج "رئيس العائلة الجديد" وامتطى سيارته وطوى الأرض طيا مدة من الزمن إلى أن توقف أمام قصر فخم وكبير، ترجل في اتجاه الباب، وطلب من الحارس مقابلة "السيد" لأمر مهم للغاية لا يتحمل التأخير أو التأجيل، وقد رفض الإفصاح عن هويته - مخافة رفض طلبه وتعطل كل شيء بما فيه دفن الميت -.
وكان له ما أراد حيث أعلم الحارس - عبر سماعة جرس المنزل - سيده بكل التفاصيل، فرفض صاحب القصر في البداية القدوم إلى هذا "الشخص المجهول" قبل أن يلح الولد في طلبه، ويصر بكل ما أوتي من قوة حينا، يترجى و يتوسل حينا آخر، إلى أن قبل السيد، وطلب إدخال الزائر إلى حديقة القصر أين ينتظره.
وها هو في "جنة من جَنان الأرض" قبالة شخص أنيق المظهر، جميل المنظر، رشيقا وممشوق العضلات، يصافحه فيرد السيد على تلك المصافحة ببرود تام، ثم يقول بصوته الخشن ونبرة فيها الكثير من الاحتقار:
- هات من الآخر يا هذا، لا وقت لدي لأضيعه مع أمثالك (وهو ينظر له بازدراء واحتقار من أسفل إلى فوق، ومن فوق إلى أسفل، ويدخن سيجارة فخمة وكبيرة الحجم)، أنجز بسرعة واختصر.
- (بكل ثقة في النفس ومخفيا خوفه وتردده وخشية ردة فعل هذا "الوحش" الآدمي كما يظهر جليا) أنا حسن بن عبد الملك المؤمن (والرجل غير مبال ينتظر نهاية اللقاء)، توفي والدي، ونحن نستعد لدفنه بعد حين (والرجل يرفع كتفيه، ويحرك حاجبيه، وكأنه يقول له "وما دخلي في ذلك؟ ") ، لكنه طلب مني مدك بهذه الورقة الآن قبل أن يصبح تحت التراب (ويعطيه الورقة، فينتبه السيد، ويقرؤها بانتباه شديد، فيتغير لون وجهه، ويتصبب عرقا، ثم يبكي بحرقة فجأة ، ويضرب على فخذيه بقوة شديدة عدة مرات، وهو مسمر العينين أرضا لا يجرؤ أن ينظر إلى حسن في عينيه)
- (باكيا) هل تعلم من أكون؟ (وحسن يشير برأسه بالنفي) أنا عمك الأكبر من الأب، (متذكرا مراحل حياته) ماتت أمي، وهي تلدني فتزوج أبي جدتك التي لم تحسن لي خاصة حين أنجبت والدك، وكبرت بعد أن ذقت الأمرين في بيتكم. فانتهزت أول فرصة عند اشتداد عودي ، وتحايلت على والدي، وأرغمته على التنازل عن كل أملاكه وعقاراته وشركاته، وكل الأرصدة البنكية وغيرها، وحرمان والدك من كل شيء، مما عجل بوفاة والدي قهرا بعد مدة، وتبعته جدتك في الشهر نفسه. ورغم محاولات والدك والتجائه إلى القضاء بعد توسله وإلحاحه وتدخل القريب والبعيد، فإنه لم يحصل على مليم واحد مني غير منزلكم الذي ترجع ملكيته إلى أمك للأسف...
وواصل السرد وأعلم ابن أخيه أنه لم يكتف بذلك بل سعى إلى الانتقام من أخيه وحرمانه من كل شيء بما فيه قوت يومه، إلى أن بات يعمل عاملا يوميا، ويكابد صعاب الحياة ومشاغلها ومكائد أخيه الذي تبرأ منه، وهدده بالقضاء عليه، وعلى أسرته كُلََّها إن اقترب منه أو واصل تقفي خطاه ومحاولة استرجاع ما انتزع منه...
بعدها - وما زالت الدموع تنهمر مدرارا من عينيه وصوته متقطعا -، أعرب له عن ندمه الشديد وأنه سيرجع الحق لأصحابه فورا، ولن يحرمهم من شيء بعد الآن، وطلب من حسن انتظاره لمرافقته وحضور مراسم دفن أخيه وقيامه بواجبه تجاهه وتجاه بقية العائلة وأفرادها.
إلا أن حسن صده، وقال له "نسيت أن أعلمك أن والدي قد ترك لي ورقة ثانية - مده بنسخة منها قام بنسخها ما أن خرج من المنزل كما طلب منه والده - يمنعني بموجبها السماح لك بحضور الدفن أو عيادتنا مجددا إلى الممات من جهة، ويحجر علينا قبول أي مليم منك أو أي شيء آخر تحت أي سبب من الأسباب، ولو كان عذاب الضمير واستفاقته من جهة ثانية، بما أن صاحب الحق قد مات، ومات معه تاريخه وترك أبناء قنوعين يرضون بما كتب الله لهم، والحمد لله أننا جميعا نعيش عيشا يرضينا، ويرضي آمالنا وطموحاتنا".
ثم قفل حسن مسرعا إلى المنزل العائلي لدفن والده بما أن"إكرام الميت دفنه"، وترك عمه غارقا في دموعه وحسرته وندمه عما قام به حتى خسر الدنيا والأخرة، وحرم من تورية أخيه الوحيد ، وهو يعيد قراءة الرسالة التي تركها له المرحوم، وقد ورد فيها " أذهب بعد حين لملاقاة ربي ورفع أمري إليه ، سأقاضيك أمام العادل بعد أن خفقت في ذلك في الدنيا، سأسترد حقي منك أيها المتجبر، الظالم، الحقود... تمتع بوسخ الدنيا واهنأ بها إلى حين مثولك أمام الله. لن أسامحك، لن أسامحك، لن أسامحك".
لكنه هرع إلى المقبرة متنكرا، وحضر جنازة أخيه، وقلبه يتقطع ألما وندما، خاصة حين رأى حزن أبناء أخيه، وشعر بلوعتهم جراء هذا الفراق المميت الذي تسبب فيه، ولو بنسبة قليلة بما أن أجله قد حان.
وما هي إلا أشهر قليلة حتى مات العم أيضا قهرا وألما ووهنا بعد أن شعر بالذنب، وعجز عن التصالح مع أبناء أخيه الذين لفظوه لفظ مياه البحر لجثث الغرقى.

الخميس، 1 أغسطس 2024

القرطاس والقلم قصة لــ عبدالرحيم العسال


 قصة قصيرة للأطفال

القرطاس والقلم
==========
تشاجر القلم والقرطاس يوما وكل واحد منهما يعتز بنفسه. يقول القلم أنا أفضل فقد أقسم الله تعالى بي في كتابه وتغني بي الكتاب والشعراء ولا يستطيع أحد من أن يعيش بلا قلم.. فضحك القرطاس من كلامه وقال له :وهل تكتب على نفسك؟ وكما أقسم الله بك فكذلك انا. فما اللوح إلا قرطاس وما جدران المعابد الا قراطيس وما الصخر والجلد والبرديسي وجميع الأوراق الا قراطيس. فدخل عم وزينب غليهما وهما يتشاجران ويتفاخران. فجلسا معهما وشرحا لهما أهمية القلم وكذلك القرطاس ونحن لا نستطيع العيش بدونها. تبسم القلم وكذلك القرطاس واقتربا من بعضهما وتصافحا وأمسك عمر بالقلم وراح يقرب القرطاس ليكتب رسالته للاطفال :
القرطاس والقلم
كالماء والأدم
لا حياة للبشر
بلا القرطاس والقلم
(عبدالرحيم العسال مصر سوهاج أخميم)

الاثنين، 29 يوليو 2024

رائحة الأمكنة قصة لــ ليلى المرّاني


 رائحة الأمكنة /. قصة قصيرة

ليلى المرّاني/ من العراق
في يومٍ لم نكن نعرف تسلسله في الاسبوع أو الشهر، وفي مكان ضاع في متاهات المسافات البعيدة التي قطعناها سابقاً ونحن نحمل حلماً بات هو الآخر مدفوناً في غياهب ذاكرةٍ معتمة، أنزلونا من الشاحنة التي تكدّسنا فيها، أكثر من ثلاثين شخصاً بين امرأةٍ ورجلٍ وطفل... وشابّة تنوء بحمل بطنها الذي يكاد ينفجر، يسند رأسها على صدره زوج متهالك، من يتأخّر في القفز من ارتفاع مترين عن الارض خوفا، يتلقّى صفعةً على رأسه وركلةً قويّةً على مؤخّرته، يسحبه عملاق يقف أسفل الشاحنة، يساعده عملاق آخر، يلقيه أرضاً؛ فيركض مذعوراً كالجرذ ويصطفّ بطابورٍ من جرذان مذعورين آخرين..
المنطقة صحراويّة، حتى ظننت أننا عدنا إلى دولةٍ عربيّة متصحّرة، وأن المشوار الطويل الذي قطعناه من محطّة موتٍ إلى أخرى نحلم ب ( أرض الأحلام ) قد انتهت، يسأل أحدهم والكلمات تكاد تموت على شفتيه قبل أن ينطقها:
- أين نحن، هل تعرفون..؟
- في أرض الله الواسعة.. يجيب آخر بسخرية
- ليست أرض الله هذه، أرض الشيطان هي.. الا ترون الشياطين حولنا..!
جفّت أفواهنا، ليس فيها قطرة بصاق؛ فابتلعنا ريقنا علقماً
بناية واحدة تنتصب في ذلك الخواء المخيف، يقف عند بابها أربعة عمالقة موشّحين بالسواد من رقابهم حتى القدم، يضيف لهم رعباً، رؤوس حليقة ضخمة، وثلاثة كلاب رماديّة تقدح عيونها شرراً، تكاد تصل أكتافهم ضخامةً، تمسك بسلاسلها امرأة متّشحة هي الأخرى بالسواد، تضاهيهم طولاً وشراسةً، تضيف للمشهد رعباً جهنّميّاً، ذكّرني بأفلام الرعب التي أخشى حتى سماع موسيقاها . ..
تحالف البرد والضياع، والرعب الماثل أمامنا؛ فارتجفنا واصطكّت أسناننا، وكقطيع أغنام بائس اقتادونا إلى قبوٍ متعفّن تحت تلك البناية، نسابق بعضنا كالزواحف في النزول إليه بواسطة عتبات طينيّةٍ متآكلة، كادت المرأة التي أثقلها حمل بطنها أن تقع، تلقّفها زوجها وإثنان آخران، استقبلتنا ساحة صغيرة يتوسّطها كرسيّ خشبيّ متداعٍ ، وفي إحدى الزوايا حنفيّة ذات رقبة طويلة تنتصب داخل حوضٍ حجريّ صغير، تسابقنا إليها، نغسل وجوهنا التي تعفّرت غيظاً وذلّاً، ألقينا بأجسادنا المنهكة على أرضٍ لزجة تغطّيها مياه متعفّنة، ارتمت المرأة الحامل على الكرسيّ اليتيم، تلهث وتمسح عرقاً يتصبّب من رأسها ويغرق وجهها، يحيط بها زوجها بذراعيه، ويتمتم أدعيةً لا نكاد نسمعها.. المشهد وهبنا نسمة حبّ كنّا بحاجةٍ لها في ذلك الجدب الروحيّ والعاطفي..
أينما التفتنا، ليس غير الظلام والتوجُّس والخوف والبرد، ثمة كوّةٍ ينبعث منها الضوء، لا نرى من خلالها سوى الكلاب الرماديّة الثلاثة تحرس الباب، تجوس في المكان متحفّزةً، مزمجرة؛ فيزداد وجيف قلوبنا رعباً ..
الاعياء والجوع استنفدا آخر ما تبقّى من قلاع مقاومتنا؛ فكانت رحمةً سماويّة هبطت علينا حين اقتحم أحد العمالقة ترقّبنا الصامت، حاملاً علبةً كارتونيّةً كبيرة، عيناه تترصّدان المكان وأجسادنا التي استرخت باستسلامٍ جنائزيّ؛ وبجوع كلابٍ سائبة لم تذق طعاماً لأسابيع، دبّت فينا الحياة حين شممنا رائحة الخبز، تسابقنا في تلقّف قطع الجبن الأصفر والخبز التي أخذ يرشقنا بها متلذّذاً بلؤم مقيت وهو يراقب لهفتنا المجنونة في الظفر بهبته الغالية!
تأوّهت المرأة الحامل، ثم علا نحيبها مستغيثاً وهي تعتصر بطنها الذي تهدّل فجأةً حتى لامس ركبتيها، احتضنها زوجها مواسياً، يطلب النجدة من العملاق الذي استدار نحوها، أشار باصبعه متعالياً أن.. اتبعيني، نزفنا همهماتنا ولعناتنا بصوت خافت.. قفز الزوج وأعانها لتقف، كادت تسقط ثانيةً، أحاطها العملاق بإحدى ذراعيه، وإلى غرفةٍ مجاورة نقلها، يتبعها زوجها مذعوراً ..
التقت عيوننا جميعاً عند الكرسي الفارغ، اقترح أحدهم أن نتناوب في الجلوس عليه، لكلّ واحد ربع ساعةٍ فقط، فجأةً همس أحدهم بخوف..
- هل ترون ما أرى..؟
ضحك آخر ممتعضاً..
- وماذا ترى..؟ جنيّة البحار السبعة، أم حوريّة البحر..؟
يشير الأول بيده إلى الناحية الأخرى من القبو، نحدّق بعيوننا نصف المغلقة، ولأول مرّة بدأنا نسمع فحيحاً يصاحبه شخير يإيقاعات مختلفة، جاهدنا في تركيز أنظارنا رغم العتمة والخوف ممّا ليس في الحسبان، كان هناك رفّان خشبيّان تتكدّس فوقهما عشرات الأجساد متلاصقةً ببعضها، وعيون منطفئة تحملق فينا، أشار واحدٌ منهم، وهمهم.. فهمناها دعوةً لأحدنا أن يشاركهم مخدعهم الخشبي.. لم أعد أذكر لماذا اختاروني أنا، وكيف صعدت إلى الرفّ العالي، ومن أعانني، كلّ ما أذكره أنّ رائحة العرق النتنة، ممتزجةً برائحة أقدامٍ مطبوخة داخل أحذيةٍ لم تُخلع لأيّام وربما أسابيع، أزكمت أنفي وأصابتني بغثيانٍ وخدر؛ فغرقت في نومٍ عميق!.. فوق جناحي طائرٍ كبير رأيت أولادي يلوّحون لي ضاحكين.. ويبتعدون، أحاول اللحاق بهم.. أركض.. أتعثّر.. وأسقط في هوّة عميقة..
انتفضت مذعورةً من نومي وكأنني أسمع بكاء طفلٍ وليد..
فجراً، وقبل أن تندحر جيوش الظلام، دخل علينا عملاقان، أشارا بحركةٍ مسرحيّة أن نصطفّ بطابور لنخرج من ذلك الجحر.. ما تزال عيوننا نصف مغمضة، تصادمنا ونحن نزحف، نساعد بعضنا في اعتلاء تلك الشاحنة اللعينة.. دبّت فينا الحياة ضعيفةً من جديد، آخر ضيفٍ وصل، الزوج يحمل رضيعاً ملتصقاً بصدره، استقرّ بيننا ودموعه تغسل وجه الرضيع، رأسه متهدّل على صدره.. جزعنا، متسائلين بصمت.. أين أمّه..؟
بكى - محمد- الطفل ذو الخمسة أعوام والذي يرافق والده، التصق بأبيه وهو ينظر بخوف إلى ثوب المرأة الذي يلتفّ به الرضيع.. ملطّخاً بالدماء ..

الاثنين، 8 يوليو 2024

وصيته ... رواية / رضا الحسيني

 


وصيته ... رواية / رضا الحسيني ( 17 )

.. ( الوصية )
_ واللي مش هيتقبَّل الكلام ده ؟
_ مش هيستفاد حاجة من عدم تقبُّله ياوجيدة ، لأن زهران عمل إجراء تاني احتياطي يحمي نجلاء ويضمن تحقيق رغباته ، والإجراء ده هيظهر في وقته المناسب طبعا وأنا وأمجد والحاج عبد الوهاب عارفينه وكنا معاه فيه
هكذا كانت الأمور واضحة أمام من سيحاول الجدال والرفض ، ثم تحدث أمجد ليردد أغلب الكلام الذي قاله حمامة ولكن بأسلوبه ، وكلاهما معروف لدى الجميع بالتدين والمصداقية ، وتربطهما علاقات قوية بحكم القرابة الشديدة بكل أسرة زهران من زوجته لإخوته لعديله ، فزهران ابن عم حمامة وابن خال أمجد
_ يعني نفهم من كده إن أخونا زهران لم يترك ميراثا ، وأن تركته توزع من بعد نجلاء
_ تمام كده ياوجيدة ، ومن بعد نجلاء رزقها الله الصحة والعافية ستوزع كل التركة المتبقية منها مناصفة بين ورثة زهران ونجلاء
_ ونجلاء لها الحق تتصرف زي ماتحب في التركة؟
_ أيوة ياست نونا هتعيش حياتها زيها زيكم ومتنسيش إنها شريكة زهران في كل شيء خلال رحلة سفرهم وتجارتهم وتعبهم سوى
_ مش عشان وجيدة ونونا بيسألو يبقى معترضين ، لا السؤال للفهم وبس ياأمجد
_ ده مفهوم يامُدَّثِر
كانت الجلسة في هذه اللحظات تتأرجح بين التوتر والاندهاش من تفكير زهران ، ورغم أن إخوته كانوا قد سمعوا من زهران نفس الكلام من قبل إلا أنهم كانوا على أمل أن تكون مجرد مقلب من مقالبه أو خديعة واختبار منه لهم ، فلم يكن يخطر ببالهم أبدا أن تصبح هذه هي الحقيقة ، وهنا قفز من وجيدة سؤال
_ ومين هم الورثة اللي هيكون لهم نصيب من بعد نجلاء من عندنا ومن عندها؟
_ ياوجيدة ورثتكم الشرعيين اللي عايشين وقت وفاة زهران بناء على إعلان الوراثة اللي هتعملوه من بكره ، والورثة من عند نجلاء برضو نفس الأمر ورثتها الشرعيين وقت وفاتها بناءا على إعلان الوراثة
_ استنى يا أمجد ، زهران وصى بالتبرع بكل مكونات بيته لجمعية خيرية ، يعني مفيش حد هياخد شيء أبدا من مكوناتها
أذهلت العبارة التي قالها حمامة الجميع ،
وغدا نستكمل الوصية 

الاثنين، 26 فبراير 2024

لقاء ــــــــــ لوقاف مليكة


 لقاء .

وأنا جالس أرتشف سوادها لعلها تزيل ألم الرأس وأجد حلا لصعاب أهلكتني . وإذا بي أراها جالسة تتأمل هاتفها وكأنها بدر أو نجمة أنارت عتمة الليل .تسارعت نبضات قلبي وكأنها صعقة أصابته فأحيته من جديد .شعرها المخملي كعناقيد تدلت على كتفيها وعيناها مرج البحرين أو كسرب مليء بالحجر و اللؤلؤ .كنت كمصباح منطفئ أضاءت شعلته ابتسامة لم تكن لي بل لما تنظر له في هاتفها .كانت طوال الوقت ترصد الوقت وأنا أنظر إليها كمرصد فلك سماوي .
فكلها إشراق على أرض أصابها اكتئاب الشتاء أو كبلسم يزيل تعب النهار بملامحها وقدها الجميل وأحسست وكأنها ولدت روحي من جديد، طاقة إيجابية وهندسة إلاهية .
أحرجتها بنظراتي فتوهج وجهها خجلا أصابتني غيرة لحمرة لامست وجهها وداعبته فزاد جمالا، كانت تنظر لساعة تارة وللهاتف تارة كأن الوقت حان ،وأنا أنتظر رحيلها بل رحيل روحي من جسدي لأن الروح والقلب أجمعا أنها لي وكيف لها أن ترحل وهي ملك لي فليت الخيال يصبح حقيقة .
أحس وكأن روحي ضاعت مني وأنها عالم كله جمال وكمال أريد الولوج إليه.لكنها لم تبالي بكل هذا العالم الذي رسمته روحي لها ولا تعلم ما وصفته عيناي في تلك اللحظة من لذة الواصف للموصوف.
هاته الفلسفة الروحية التي عاشها هذا العاشق كانت لي
لقد حدثني عن تلك الجميلة التي صادفها في ذاك المقهى وأنها حلم مستحيل وهبها القدر له بأي شكل من الأشكال بل في لحظة إغماء حيث كان هو مسعفي،ويقول أنها لحظة التقاء الأرواح وكان يصف بلسانه مارأت عيناه وما أحست به الروح وكيف كان المستحيل حقيقة وكيف أن القدر دوما دوره في لعبة الحياة منتصرا.
لوقاف مليكة
الجزائر

الخميس، 15 فبراير 2024

رقصة حبّ اخيرة قصة لــ ليلى المرّاني

 


رقصة حبّ اخيرة.../. قصة قصيرة

ليلى المرّاني/ من العراق
لا يزال الأرق اللعين يمارس لعبته الخبيثة معها، تغطّي رأسها؛ تجده متربّصاً لها يضحك ساخراً تحت الغطاء، أصبح سوطاً بيد مجنون، يجلدها متلذِّذاً كلّ ليلة، وحين لا تجد مفرّاً سوى أن تستسلم؛ تهاجمها قوافل ذكرياتٍ تحاول نسيانها.. تشعر بحياتها مملّةً أقرب إلى اللاجدوى، تحاول أن تستعيد نفسها، تبعثر نظراتها في أرجاء غرفتها الصغيرة؛ فتطالعها صورة بيتها الواسع وحديقته الغنّاء، وزوج تركها وثلاثة أطفالٍ ورحل مبكّراً، تطلق حسرةً على أيّام عزّ مضت.
أمامها مرآةٌ تعكس ساخرةً وجهها المكتئب، وثمة كتب منسيّة وشمعة خضراء تآكل نصفها، تتطلّع مليّاً في صورةٍ لها بالأبيض والأسود، معلّقةً على الحائط، تنهض وترفعها، تمعن النظر فيها ثمّ إلى وجهها في المرآة، يشهق جسدها متحسّراً.. ياه!.. كم تغيّرتُ، أين ذلك العنفوان وتلك النضارة؟
تسرح بعيداً بأفكارها، ثمّ تعاودها فكرة راودتها منذ حين، سمعت ابنتها وصديقتها تتحاوران..
- لا أدري ماذا أفعل بملابس والدتي وأغراضها الأخرى .... تقول الصديقة
-إبعثيها إلى الجمعيّات الخيريّة... تقول ابنتها
- والصور؟ هناك المئات من الصور القديمة.
- أحرقيها...
- كيف؟ قلبي لا يطاوعني، صورنا أنا وأخوتي حين كنّا صغاراً، صور للعائلة وللأجداد... هههه، وأجداد الأجداد..
تضحك ابنتها….
- اعرضيها في المتحف
- أتسخرين؟
- وماذا عسايَ أن أقول؟ أنا مثلكِ حائرة….هل نسيتِ أنّ أمّي هي الأخرى في أيامها الأخيرة؟ ماذا سأفعل ولديها مئات الصور وأشياء اخرى تخصّها؟
تبتلع ريقها علقماً، تتحسس بطنها الذي يحمل قنبلةً موقوتة لا تدري متى تنفجر وقد هدّها المرض الخبيث،
تجول دموع في عينيها، تتذكّر صندوقها الذي استحال لونه إلى تراب، تمدّ يدها تحت السرير، تكاد تسقط.. وبكلّ جهدها المتخاذل ترفعه.. " العمر يمضي مسرعاً خطاه…"
تختنق بغصّة طعمها موت ومرارة...
.." ماذا سأترك لأولادي؟ لا شيء غير هذا الصندوق العتيق ومئات صورٍ لا تهمّهم بشيء.."
تنشرها على فراشها، صور عائلية قديمة فقدت ألوانها، وتآكل بعضها، كانت قد أرشفت معظمها حسب تواريخها وشخوصها، يخترق سمعها صوت ابنتها وهي تضحك ساخرةً "
اعرضيها في المتحف ..."
فيضحك صوتٌ في المرآة، " نعم، ماذا سيفعلون بها، هم يؤرشفون أيامهم وأعيادهم وحتى ضحكاتهم على أجهزتهم الذكيّة، لم يعد للصور الورقيّة حيّز في عالمهم الذي يلهث وراء كلّ جديد.. سيتخلّصون من هذا الإرث الثقيل.."
- كيف؟..
- يحرقونها.. يهبونها إلى الجمعيّات الخيريّة مع ملابسك وبقايا عطورك.. أو ربما...
- ربما ماذا؟.. ينشب خلاف بينهم بسبب هذه الصور اللعينة؟ إذن سأعفيهم من هذه المهمة الصعبة، سامزّق الصور وأحرقها..
- تفتح ظرفاً بعد الآخر، تتأمّل ما بداخله، تتوقّف طويلاً عند ظرفٍ كبير متخم بصور أولادها.. هذه ندى وهي تتأرجح بخطواتها الأولى.. وميض،عائدًا من المدرسة ببدلته الزرقاء في يومه الدراسيّ الأول.. وهذه تينا حبيبتي في عامها الأول.. ويقع نظرها على صورةٍ تلهب مشاعرها، أوّل يوم في بيتهم الجديد، محتضنةً أولادها وزوجها يقف خلفهم يحتضنها بحبّ..
تناثرت حبّات دمعٍ ساخنة فوق الصورة؛ مسحتها بشفتيها..
الظرف الآخر .. وفيه صورها في الجامعة، تتأمّلها الواحدة بعد الأخرى.. آه.. كزهرةٍ بريّة جميلةٍ كانت، تحوم حولها أسراب النحل، ترتسم على وجهها ابتسامةُ طفلة حين تذكر كيف كانت تتعمّد إظهار مفاتنها في الصور، كي تثير غيرة صديقاتها، ورغبة الذكور فيها...
يعود من جديد ذلك الشعور الذي سيطر عليها ويشعرها بالعدم، الخطوات تسارع بعضها إلى محطتها الأخيرة بعد أن هدّها المرض الخبيث. بيدٍ مرتجفة، تخرج صورته.. ياااااه.. كم من العمر مضى منذ أن أطلق الحبيب ساقيه للريح حين سمع قرقعة سيوف الأهل وخناجرهم، معلنةً رفضه زوجاً لها..!
لا يزال بعض نبضٍ في القلب يهفو إليه، تحمل الصورة، تضعها على موضع القلب.. بحركاتٍ مرتعشة بطيئة ترقص معه.. تدور الغرفة بها.. وتدور معها، تطبق جدرانها عليها، فتسقط محتضنةً حبيبها الذي هرب..

الخميس، 1 فبراير 2024

ظلّ من الماضي قصة لــ ليلى المرّاني


 ظلّ من الماضي.. / قصة قصيرة

ليلى المرّاني / العراق
حين وضع فنجان القهوة أمامي، ارتعشت يده؛ فانسكب شيء منها على مكتبي، سارع في مسحه وهو يعتذر متلعثمًا، رفعت رأسي إليه، رأيته ينظر إلى ( اليافطة ) التي كتب عليها - المدير العام - وإسمي، ثم إلى وجهي.. ذهلت، فقد عرفته، وأظنّ أنه عرفني أيضًا، هو ب ( الوحمة ) المرتسمة على خدّه، والتي كنّا نتفنّن في تشبيهها ونحن تلاميذ في الصف الخامس ابتدائي، حتى توصّلنا أخيرًا إلى أنها تشبه العرموطة ( الكمّثرى )؛ فأصبحنا نطلق عليه ( أبو عرموطة )، وهو عرفني من أنفي الطويل الذي يكاد يسقط في فمي! ومن اسمي المميّز الذي كان يسبب سخرية التلاميذ؛ فأعود إلى البيت ساخطًا أسأل أمي
- لماذا أطلقتم عليّ هذا الاسم؟
- أبوك اختاره لك لأنه اسم جدّك
فألعن جدّي في السرّ..
نظرت إليه بإمعان: هات لي فنجان قهوة آخر، واغلق الباب من خلفك يا....
- ياسر سيّدي.. إسمي ياسر
لم أكن بحاجة أن يذكر لي اسمه؛ فقد عرفته.. فتحت النافذة التي خلفي، أشعلت سيجارةً واسترخيت على كرسيّ الوثير. حلّق بي جناحا ذاكرتي وأنا أنظر إلى حلقات الدخان التي أنفثها بتلذّذ.. كثيفة وكبيرة، ثم تصغر وتصغر إلى أن تتلاشى. كنّا معًا في صفّ واحد طوال المرحلة الابتدائية، والدي شرطيّ بالكاد يلقم سبعة أفواه جائعة، أذهب إلى المدرسة ببنطالٍ قديمٍ ممزّق يثير سخرية الآخرين، ولكن ما يشفع لي ويجعلهم يكتمون ضحكاتهم هو تفوّقي عليهم جميعًا في الدراسة، والمقالب الكثيرة التي أعملها، وتعاطف المعلّم معي. ياسر متخلّفا في دراسته كان، لا يحضر معظم الدروس إذ يقف في الحانوت المدرسي الذي كان والده الغني متعهّدا له. لم نره يومًا دون أن يكون فمه يجترّ ( سندويچا ) أو قطعة حلوى؛ فتئنّ معدنا الفارغة!
دخل المعلم يومًا إلى الصف وخلفه ياسر
- مَن منكم أضاع درهمًا ؟
وللدرهم في ذلك الوقت قيمة وقامة لم يحلم به واحد منّا، سرعان ما رفعت يدي وصحت بأعلى صوتي،" أنا.. أنا أستاذ. "
التفتت الرؤوس جميعها نحوي غير مصدّقة، ذهل ياسر وصاح وهو يكاد يبكي، " بل أنا.. أنا أستاذ أضعت درهمي، مصروفي اليومي. "
نظر المعلم إلى كلينا باستغراب، " مَن يجيب على سؤالي هو صاحب الدرهم. ماذا يوجد على أحد الوجهين للدرهم؟ "
سرعان ما صحت، " نخلة أستاذي.. توجد نخلة. "
نظر المعلم إليّ مندهشًا وضحكة ساخرة تتراقص على فمه، " صحيح، تعال خذ الدرهم.."
وأسقط بيد ياسر، وزاد حقده عليّ، لم تكن هناك أيّة نخلة على وجه الدرهم، ولكن معلّمي كإن معروفًا بتعاطفه مع التلاميذ الفقراء، وازدرائه لتشدّق ياسر ومفاخرته بوالده الثري وعدم التزامه بالدوام. لم أنسَ تلك الحادثة طوال حياتي، خاصةً بعد أن خرجنا من الصف وأوقفني المعلّم بعد أن ابتعد التلاميذ، شدّ على أذني بكلّ قوّته، فتساقطت دموعي
لا تفعلها ثانيةً، وإلاّ قطعت أذنك.-
أحبّ معلّمي، يحكي لنا حكايات كثيرة لا نفهم معظمها عن الذين يمتصّون دماء شعوبهم؛ فنرتجف خوفًا من اولئك مصّاصي الدماء، ونحلم بهم ليلًا! يحكي عن الاستعمار، فنتساءل ما هو الاستعمار؛ فيستفيض في الشرح، ونرى مدير المدرسة يتلصّص من النافذة، يسكت المعلّم ويصيبنا الذعر، حتى كان يومًا لن أنساه ما حييت.. داهمت الشرطة مدرستنا واقتادوا معلّمنا الذي نحبّه، رأيت والدي أحد اولئك الذين اقتادوه، هجمت عليه وأنا أبكي؛ فسدّد لي ضربةً قوّيةً على رأسي ألقتني أرضًا وعيناه تقدحان شررًا.. ولم نرَ معلّمنا ثانيةً..
يااااه.. كم تمرّ الأيام والسنون بسرعة مذهلة، وها هي تعود الآن تحمل معها زميل دراستي الذي كان يكرهني. طلبت استبداله بعاملٍ آخر كي لا تتكرّر تلك الذكريات، لي معه ذكريات كثيرة مؤلمة. في اليوم الثاني سمعت نقرًا خفيفًا على الباب، حين دخل بادرني والدموع تكاد تطفر من عينيه، "
- لماذا يا أستاذ ( چلّوب )؟ لماذا أمرت بطردي؟ خمسة أبناء وأمّهم في رقبتي، كيف أعيلهم؟
أحسستُ أنه ينطق إسمي بتلك الطريقة الساخرة حين كنا في المدرسة، تجهّم وجهي، قلت وأنا أضغط بقوة على كلماتي كي لا أخرج عن هدوئي
- لم آمر بطردك يا ياسر، ولكن بنقلك إلى غرفة الموظفين، أريح لي ولك .
خرج وهو يتمتم.. وأنا متأكد بأنه كان يشتمني!

السبت، 11 نوفمبر 2023

إني اخترتك يا وطني ـــــــــ جورج عازار


 قصة قصيرة بعنوان "إني اخترتك يا وطني"

إني اخترتك يا وطني

كانت الأرغفة الساخنة تلفع راحتيها الصغيرتين وهي عائدة من مخبز الحي، حاولت أن تُنقِّل الأرغفة من يدٍ إلى أخرى، لعلّها تحظى بفترةٍ قليلة من الراحة، ولكن بلا جدوى فالبخار الحار المتصاعد من الخبز الساخن يحرق راحتيها، وعندما يئست هداها تفكيرها إلى أن تخلع معطفها، وأن تحمل الأرغفة فوقه، فحلت المشكلة، ولكنَّ البرد بدأ يتسلل إلى جسدها الغضِّ رويداً رويداً.

نظرت إلى القروش القليلة التي تبقت بعد أن دفعت ثمن الخبز، ثم دخلت إلى دكان الحي، ونقدته تلك القروش، وهمست: أريد لوحاً من الطباشير، أعطاها ما طلبت، فمضت إلى الجدار المقابل، رسمت عليه شكل رجل وكتبت بجانبه بابا، ثم بدأت تكتب حرف الألف ثم تتالت الحروف" انّي اخترتك".

سمعت أصوات طلقاتٍ في الجوار، ولكنَّها ومنذ زمنٍ بعيدٍ لم تعد تكترث لتلك الأصوات، فبعد خمس سنوات من الحرب اعتادت أزيز الرصاص، واستنشقت رائحة البارود، وحتى ملامح الموت خَبِرَتْها عندما سقط أبيها قتيلاً قبل ثلاث سنوات، وحينها نظرت إلى عينينه الجامدتين، وأدركت أنَّ الموت ما هو سوى اختيارٌ للصمت فحسب.

سمعت جلبةً خلفها كان بعض الجنود في حالةٍ هستيريةٍ قال أحدهم لزميله: اِحذر إنَّهُ هناك مختبئ ٌخلف النافذة انتبه، ثم مرَّت رصاصة بينهما فانبطحا تحت السَّاتر الترابي.

تابعت فرح الكتابة "يا وطن" وكانت تهمُّ باستكمال الجملة بحرف الياء، لأنها تعرف أنَّ الحكاية تبدأ دوماً من الألف وتنتهي حتماً بحرف الياء، وبين الألف والياء تموت كلّ الأشياء وبينهما تحيا.

تعالى صوت الرصاصة التي سمعتها وهي تخترق ظهرها وتطيح بقطعة الطباشير من بين أصابعها الصغيرة، خَرَّت على ركبتيها، كانت تتألمُ بشدةٍ، ولكنَّها أرادت رسم الحرف الأخيرالمتبقي، حاولت أن تزحف نحو قطعة الطباشير لتجلبها فلم تتمكن من ذلك، كانت قطراتٌ غزيرةٌ قد أخذت تتجمَّع على الرصيف، غمست سبابتها في إحدى قطرات الدَّم، وكتبت حرف الياء، ثم تكوَّمت بلا حراكٍ فوق الرصيف.

تحررت أرغفة الخبز من معطفها وهي تهوي أرضاً، وتَعَمَّدتْ بلونِ الدَّم القاني وأخذت تُدفئُ جسدَها البارد مرةً أُخرى.

جورج عازار ستوكهولم- السويد

اللوحة للفنان التشكيلي السوري أ. يعقوب اسحق

الاثنين، 18 سبتمبر 2023

باثور رئيس المخفر قصة لـــــ مصطفى الحاج حسين


باثور رئيس المخفر ...

قصة : مصطفى الحاج حسين .
في صباحٍ مشمسٍ ، وبينما كان رئيس المخفر ، ( أبو رشيد ) يجلس على كرسيه ، فوق المصطبة ، عند باب المخفر ، حيث كان يدخن ، ويتلهى بمراقبة القرية القريبة ، عبر منظاره الجديد ، وإذ به يلمح رجلاً قروياً يتّجه إلى العراء ، وحين ابتعد عن الأنظار ، تلفت يمنة ويسرة ، ثمّ رفع ( كلابيته ) على عجلٍ ، قرفص ، وخلال دقيقة تناول من قربه حصوة
مسّح بها ثمّ نهض .
استرعى هذا المنظر ، اهتمام رئيس المخفر وفضوله ، فصرخ على الفور ينادي ( الرقيب خليل ) ، ولمّا خرج إليه ( خليل ) ، أمره قائلاً :
- إذهب إلى هناك .. وأشار بيده صوب القرية ، ناحية القروي :
- أحضر ذاك البدوي بسرعة .
امتطى( الرقيب خليل ) حصانه
وانطلق صوب القرية مسرعاً .
كان الرجل القروي ، قد اقترب من قباب القرية ، حين ناداه الرقيب :
- قف .. عندك .. لا تتحرك .
انبعثت رعشة عنيفة في أعماق القروي ، تلعثمت كلماته :
- خير ياوجه الخير !! .. ماذا تريد ؟!
- امشِ قدامي إلى المخفر .. هيّا تحرك .
تضاعف الخوف في أعماق القروي ، وأراد أن يستفسر :
- ولكن لماذا ياوجه الخير .. أنا لم أفعل شيئاً ؟! .
صاح( الرقيب خليل ) من فوق حصانه ، الذي لم ينقطع لهاثه ، بعد :
- تحرّك ياكلب .. قسماً سأنزل وأدوسك بحذائي .
- لكن ياسيدي ...
لم يتركه يكمل كلامه ، فقد اقترب منه ، وهوى عليه بسوطه .. صارخاً :
- تحرّك .
كان القروي يتعثّر بخطواته بين الفلاة ، والرقيب من فوق حصانه ، يحثّه مرّة على العجلة ، ويسوطه مرّة أخرى .
اقترب من رئيس المخفر ، فتطلّع الرجل إلى ( أبي رشيد ) بهلع ، بينما كانت مفاصله ترتعش ..
رمقه رئيس المخفر بنظرة صارمة ، ونهض :
- الحق بي إلى مكتبي .
حين أغلق رئيس المخفر الباب على الرجل ، المرتعد الفرائض ، أيقن أن جريمة فظيعة ، سوف تنسب إليه .
غير أن رئيس المخفر ، نظر إليه وابتسامة لزجة ارتسمت تحت شاربيه :
- ما اسمك ؟ .
- أنا ياسيدي .. اسمي .. ( خميس ) أبو حسين .
- أريدك يا أبا حسين ، أن تحدّثني بصراحة .
واندفع ( خميس ) ليقسم لرئيس المخفر ، وكان الخوف قد بلغ ذروته :
- أنا والله لم أفعل شيئاً .
ابتسم رئيس المخفر ، أدرك أنه رجل ذو هيبة ، يخافه الجميع :
- لقد شاهدتك وأنت تقرفص ( وتفعلها ) بسرعة .
علت الدّهشة وجه ( خميس ) همس كمن يقر بذنبه :
- نعم .. فعلتها .. لماذا أكذب ؟! .. ولكنني لم أكن أعرف أن هذا ممنوع .
صرخ رئيس المخفر :
- اسمعني ياغبي .. لا تقاطعني .. الحكومة لا تمنع مثل هذه الأمور ، لأنها لا تعتبر من الأعمال السياسية .
ثم استدرك محاولا شرح الموقف ، للمواطن ( خميس ) ، الذي لم يزايله الخوف حتى الآن :
- أنت - فعلتها - بسرعة ، وأنا أمضي أكثر من ساعة في المرحاض ، أريدك أن تساعدني حتى أستطيع أن - أعملها - مثلك ، بعجلة .. أنت لا تعرف كم أنا أعاني وأتعذّب كلّ يوم .
بعد جهدٍ استطاع المدعو ( خميس ) أن يفهم مايريده منه رئيس المخفر ، ولأول مرّه يزايله
خوفه ، ويتجرأ ويرسم على شفتيه اليابستين شبه ابتسامة :
- أمن أجل هذا أرسلت في طلبي ؟! .
- نعم .
- بسيطة .. ياسيادة رئيس المخفر .. القضية في غاية السّهولة .
وهنا استبشر رئيس المخفر ، خيراً ، فهتف بفرحة :
- كيف ؟؟؟؟؟ .. قل لي .. أرجوك .. فأنا أتعذّب .. وأضيع معظم وقتي داخل المرحاض .
تضاعف شعور ( خميس ) بثقته بنفسه ، فها هي الحكومة بكلّ جبروتها وعظمتها وهيبتها ، تلجأ
إليه وتستشيره ، في قضية على غاية من الأهمية .. لذلك أجاب :
- أنا ياسيدي .. عندما أتضايق ، أحاول أن أؤجلها ..
وكلما تضايقت أضغط على نفسي ، حتى - أحمّصها - ، وعندها أهرع إلى البريّة ، وخلال دقيقة أكون قد
انتهيت .
ابتسم رئيس المخفر .. شعر بالراحة والسعادة ، أخيراً سيضع حداً لهذا العذاب المضني ، وأقسم في
أعماقه ، أن يكافئ ( خميس ) إن نجحت وصفته هذه :
- إذاً عليّ أن - أحمّصها - ، أليس كذلك ؟ .
- نعم سيدي .
في اليوم التالي ، رفض رئيس المخفر أن يدخل دورة المياه ، قبل أن يغادر ببته . توجه إلى المخفر ،
وهو يشعر بالضيق بعض الشيء ، لكنه سينفذ ماطلبه منه ( خميس)، - سيحمّصها - .
وحين دخل إلى مكتبه ،استدعى كافةعناصره ، كعادته ، ليشربوا الشاي .. لكنه سرعان مابدأ يتململ
في قعدته ، فوق كرسيه ، ومع هذا كان يردد بداخله :
- ليس الآن .. عليّ أن أنتظر ، حتى - أحمّصها - ، ( خميس ) قال لي هذا .
مضى كثير من الوقت ، وهو يثرثر مع عناصره ، محاولاً كبح مؤخرته ، عن الانفجار .
أخيراً ، شعر بمغصٍ شديد ، مغص لا يقاوم ، كأنه الطّلق .. نهض عن كرسيه ، حاول أن يتجاوز
كراسي عناصره بسرعة ، لكنّ صمام الأمان أفلت منه ، فها هو وقبل أن يفتح الباب يفرقع بقوة ، كانت ( ضرطته ) بقوة انفجار قنبلة .. أحسّ بالخجل الشديد ، لم يلتفت صوب عناصره ، الذين تغامزوا ، وضحكوا بعد خروجه .
وفي الممر .. ممر المخفر الطويل ، وقبل أن يصل إلى بيت - الخلاء-حدث ما لم يكن في الحسبان
لقد - فعلها - في بنطاله .. ياللعار .
أقسم أنه - سيفعلها - في فم ( خميس) ، حلف أنه - سيخصيه - ، سيدق رأسه ، سيرميه في الزنزانة ، وسيجعله عبرة لكلّ الناس .
وبعد أن غير بذته العسكرية ، رمق عناصره بنظرات حادة وصارمة ، أخرست ضحكاتهم
المكتومة ، أمر الجميع ، باحضار المجرم ( خميس ) .
خرجت كوكبة من رجال الشرطة
هرعوا إلى الاسطبل الملاصق للمخفر
امتطوا جيادهم بسرعة ، لكزوا الخيول ، فانطلقت محمحمة باتجاه
القرية .
حاصروا بيت المدع( خميس ) ، صاحب النصائح الكاذبة ، المخادعة ، داهم ( الرقيب خليل ) ، وبعض العناصر ، القبّة الكببرة ، انطلقت
صرخة ذعر من امرأة ، كانت تغتسل عند العتبة ، حاولت أن تستر عريها ، لكنّ ( الرقيب خليل ) الذي حاول أن يتراجع ، كان يحدّق بانشداه تام ، إلى هذا الجسد العاري المثير ، والذي تفوح منه رائحة الصابون ، وبخار الماء السّاخن ..وتحيّرت عيناه أين
ستركزان النطر ، على النهدين الصاعقين ، أم على الفخذين المكتنزين .
صاحت المرأة ، لتوقظه من دهشته ، واشتعال شهوته :
- ماذا تريدون ؟! .
زأر ( الرقيب خليل ) ، المتأجج بشهوته :
- نريد .. المجرم ( خميس ) . صاحت وهي تحمي نفسها ، بثوبها :
- هل صار زوجي ( خميس ) مجرماً
.. ماذا فعل .؟!
ثم أردفت :
- هو ليس هنا .. غير موجود .. نزل إلى حلب .
مدّ ( الرقيب خليل ) رأسه أكثر ، ليستجلي المكان بدقة ، وكانت نطراته تنهشان الجسد العاري ، رغم تستر المنطقة المهمة بالنسبة له ، واستطاع رفاقه أن يدلفوا جميعهم ودفعة واحدة ، إلى القبة الطينية ، تسبقهم شهواتهم المتقدةبقوة .
فصرخ ( الرقيب ) بوجه المرأة ، ليطيل الوقت أكثر :
- إذاً فعلها زوجك ( خميس ) وهرب
.. ولكني سأجده ، وحق المصحف .. سأجده .. لن أتركه يفلت منّي .
شعرت المرأة بذعر شديد .. وكانت قد نسيت ماعليها من عريّ .. سألت :
- ماذا فعل ( خميس ) ..أخبروني ؟!.
- المجرم خدع رئيس المخفر .. وهرب .
عندما عاد عناصر الشرطة ، بقيادة الرقيب ، إلى المخفر ، وكان قائدهم بانتظارهم مصطحبين معهم
غريمه القروي ، ثار عليهم وراح يوبخهم ، لأنهم عادوا من دون ( خميس ) ، مبالغاً بغضبه، لكي
يواري خجله منهم ، ولأنه لم يعد يطيق أية نظرة توجه إليه ، من أحد عناصره ، فقد عاد وأمرهم أن يخرجوا إلى الطريق ، وينصبوا كميناً ، بانتظار ( خميس ) ، وأقسم لهم بأنه سيعاقبهم إن لم يستطيعوا القبض عليه اليوم .
حين وصل ( خميس ) مكبلاً ، مدمى الوجه ، وممزق الجسد ، وكان هو الآخر قد - فعلها - من شدّة خوفه وهول ماتلقاه من ضرب مبرح ، حين
قبضوا عليه ، بعد أن نزل من السيارة ، العائدة من حلب .
ولمّا صرخ رئيس المخفر بوجهه الشديد الشحوب :
- أتضحك عليّ ياصعلوك ؟! .
رد بصوت منكسر ، فيه من الخوف والرجاء الشيء الكثير :
- ولكن ياسيدي .. أرجوك أن تدعني أشاهد البنطال .
استغرب رئيس المخفر طلبه هذا ، لكن ( خميس ) أصرّ وكرر رجاءه .. باحضار البنطال .
فأمر رئيس المخفر عناصره ، و على مضض منه ، باحضار البنطال فوراً .
وحين أمسك ( خميس ) بالبنطال المبلول ، والكريه الرائحة ، نظر إليه ملياً .. قربه منه .. تفحصه بشدة ، تشممه .. وعاود الشمّ ، ثمّ مدّ أصبعه ، وأخذ من البنطال عينة ، ورئيس المخفر وعناصره ، يراقبونه ، باندهاش وحيرة ، ثم فاجأهم
( خميس ) حين وضع أصبعه وما عليها من براز ، في فمه ، حيث لحس أصبعه ، تذوق ماكان عليها ، ثم التفت إلى رئيس المخفر ، وقال:
- أنا قلت لك ياسيدي ، أن - تحمّصها - ولكنك ياسيدي .. أنت للأسف الشديد ، قد أحرقتها ، وهذا ليس ذنبي .
مصطفى الحاج حسين .
حلب

اْلفلّاح والْعصفور قصة لـــــــــ علي إبراهيم


 قصّة الاطفال..... ٢....اْلفلّاح والْعصفور.

اخذَ الْفلاّح محمود يكثرُ الضّرب على حِمارهِ الذّي سقط على الْارض! لم يمهلهُ دقيقةً لِيستريحَ منْ عناء التَّعب في الْبُستانِ الْكبيرِ.! كانَ الْوحيد ُ الذّي تأثّرَ بهذا الْمنظرِ هوَ الْعصفورُ طالما تنقّلَ بينَ شجرةٍ واخرى، وهويسقسقُ للصباحِ الْجميلِ في الْبُستانِ.

خاطبَ الْعصفورِ الْفلاّح محمود قائلاً: لماذا تضربُ حمارك؟ وكمْ تعِبَ وتحمّل منْ اجلكَ!؟

اجابَ الْفلاّحُ محمودُبصوتٍ عالٍ:انتَ ما يهمّك منِ الامرِ شيءُ. عندها قالَ الْعصفورُ لماذا تُبعدني عنهُ، ونحنُ اصحابُها في هذا الْبستانِ الْجميلِ، فكم دعوني بالشَّحرورِ لرقّة صوتي.؟ الآنَ تتخلّى عنْ حِماركَ بعدَ سنوات التَّعب قدّمَ فيها كثيراً من الاشغالِ إليكَ! ردَّ الْفلاّح ثانيةً بصوتٍ ازعجَ من في الْبستان : انتَ لا يهمّك، وبعد انْ سمِعَ الْعصفورُ غضبَ الْفلاّح على الْحمار قررَّ انْ يعملَ ما في وسعِهِلانقاذ الحمار؛ وهوَ يشكو منِ الضَّب بالنَّهيمن تنكّرِ الْفلاّح محمود له. اخذَ الْعصفورُ يقفُ على رأسِ الحمار، وإضطّرَ الْفلاّح انْ يتركَ السَّوطَويضربَ راسَهُبكفّيهِ لكي يتحاشى الْعصفورَ.!، ومرّةً ثانيةً وقفَ على ظهرِهِ  وعلى صدرِهِ؛ وفي كُلّ ومرّةً يوسعُ الْفلاّحُ محمودُبصوتٍ نفسَهُ ضرباً شديداً على صدرِهِ ظهرِهِ، وحينَ وقفَ الْعصفورُ على بطنِ الْفلاّحِاخذَ يضربُ بطنَهُ ليُبعدَ الْعصفورَ، وهوَ يخدشُ بطنَهُ، سقطَ الْفلاّحُ على الأرضِ بعدما اشبع بطنَهُ ضرباً، وهوَ يصيحُ.. آه..  آه!

عندَ ذلكَ نهضَ الحِمارُ ينظرُ إلى الْفلاّحِ في منظرِهِ؛ وإلى الْعصفورِ الذّي يسقسقُ بصوتٍ جميلٍ، ويقولُ للفلاّح : كمْ نصحتُكَ في تركِ الْحمارِ فلمْ تقبلِ النصيحةَ؟

إبتسمَ الْحمارُ بعدما حطَّ الْعصفورُ على ظهرِهِ، وهوَ يخطو خطواتٍ خارجَ الْبُستانِ! نادى الْفلاّحُ عليهِ بصوتً خفيضٍ، وهوَ يتآلمُ:إلى اينَ انتَ ذاهبُ.؟ اجابَ الحِمارُ بصوتٍ فيهِ الإبتسامةُ والْفرحُ: مع الْعصفورِ فانتَ لا يهمّكَ اينَ نذهبُ؟ إنشغلْ انتَ بالمكَ؛ وإحذرْانْ تتعدى حدودَ الآخرينَ في التَّعاملِ وتفهمَ آلامَ منْ يصرخُ امامَ حتّى لا تفقد صداقتكَ معافى هذا الْبُستانِ..

علي إبراهيم... البصرة