سيميائيّة الفضاء في المجموعة الشّعرية "نشيد الوجع"
للشّاعر: محسن عبيدي
بقلم الأستاذة: منى أحمد البريكي
تصدير
"الزّمانُ مكانٌ سائلٌ، والمكانُ زمانٌ متجمِّد."
ابن عربي
توطئة:
لأنّ "النّظريّات الأدبيّة تبدو غير قادرة على التّفكير في الأدب دون العودة إلى القارئ بصفته مقولة مفهوميّة."كما يؤكّد فولفغانغ إيزر
أدعوكم إلى قراءة هذا المنجز الشّعري لصديقنا الأستاذ محسن عبيدي الصّادر عن دار الوطن العربي بالمنستير في أفريل 2020 وقد جاء في90 صفحة ووسمه ب"نشيد الوجع"
والمتأمّل في صورة الغلاف يلاحظ طغيان السّواد المعبّر عن التّوجّع ، وفي بارقة بياض تتخلّله وفي تقابل المضاف "الوجع" مع المضاف إليه "نشيد" ثنائيّة تدعونا إلى الغوص في الأثر من خلال هذا الوصيد المعزّز بصورة ذات شحنات دلاليّة نجد صداها مبثوثا في 16قصيد وومضات قصيرة.
نجد فيها الخيالَ بما هو تجاوز للواقع، وبما هو ميدان الشّعر وحصانه الجامح ومكمن الجمال فيه.
فالشّعر يُعتبر ديوانُ العرب إلّا أنّنا نلاحظ تقهقرا لمكانته اليوم في الأدب العربي والتّونسي خاصّة بسبب إقبال المثقّف أو القارئ على أجناس أدبيّة أخرى أهمّها الرّواية، ومع ذلك هناك من يختار الصّعب ويركب سفين القصيد التّقليدي ملتزما بالتّفعيلات والأوزان و القوافي أشرعة توجّهه في بحور خليليّة مختلفة، جاعلا من شعريّة الصّور الّتي تميّز قصيد النّثر مرساة بما فيها من لعب لغوي وتكسير للجملة الشّعرية الموروثة ونمطيّة بنائها ومتجاوزا في تمازج بين القديم والحديث ماهية الشّعر كديوان إلى كونه
" ذلك السّطر الّذي كان يوشك الشّاعر أن يكتبه.. لكنّ القصيدة تشير إليه باستماتة مثل أبكم يوشك أن يخبر عن حادثة قتل." كما يقول ابراهيم جبرا ابراهيم. ونجد شاعرنا من هذا الرّعيل المختلف يلقي إلينا بخطاب "يضجّ بألف سؤال"بحسب تعبيره وفي قصيده "مازلت" ص42.
يراود محسن عبيدي الأمل على صدر الألم ويرسي الحبّ في ميناء الشّعر ويسير على خطى الخليل بن أحمد الفراهيدي ويتّخذ معه خيمة في الفلاة ملاذا "ينير السّبيل بنور القوافي وضوء البحور."كما قال في ص16
1_ في شعرية الفضاء
يكوّن الفضاء عند تفاعله مع الأحداث القادحة إيقاعا بارزا في جلّ قصائد الكتاب وللأمكنة الموسومة في النّصّ ككلّ أبعاد نفسيّة واجتماعيّة وتاريخيّة علاوة على البعد الجغرافي المحدّد ذلك أنّ " الأمكنة ليست البنيان الظّاهريّ، وإنّما نواياها الخفيّة الّتي لا تنتهي بتدمير الشّكل الظّاهري."كما يعرّفها غاستون باشلار. فللفضاء فاعليّة في تطوير الجملة الشّعريّة عند تحاقلها مع السّرد كخلفيّة للحدث علاوة على أنّه عنصر فنّي يظهر من خلال ثنائيّات الحضور/الغياب ، الملء/الفراغ ، والبياضات التي يحبّرها المتلقّي عند القراءة. بين فضاء الواقع المقيت وفضاء الحلم، أمكنة دالّة وحاملة شحنات شعوريّة وطاقة لغويّة أودعها الشّاعر في أبياته المسكونة بالوجع والحزن والرّفض.
وتبرز شعرية الفضاء في حزنه الرّاقص على صخب تناهيد قتلت الأحلام وأسرت المشاعر من خلال ضغط الأمكنة على الأرواح والأجساد، جعلها في دوامة واقع ديستوبي أصبح فيه الفضاء شبكة لا متناهية من العلاقات والرّؤى والمواقف، تتّحد لتكوّن الفضاء الرّمزي، ويكون بؤرويّا-دراميّا حين يدخل في حقل دلالي يعتمد الانزياح حينا والتّناص أحيانا فيصبح تقنية جماليّة يتحاقل فيها الفنّيّ بالدّلاليّ وبالجغرافي المغرق في محلّية تخاطب القارئ وتساعده على التّموقع كما في قصيدتي"لحن مغيلة" ص18 و"نشيد سفيطلة" ص36
ويرحل بنا إلى فضاء أرحب متنقّلا بين حلم باريسيّ وطيف آرثر وبين ناب ذئب كينيا الممتدّ كالحبّ والجوع بجسد فقير، كما يقول الشّاعر مرتحلا إلى جبل الأوراس وإلى غزّة والقدس الرّامزتين. وتتداخل الأمكنة مع حالته الانفعاليّة(مازلت منفعلا، مازلت مشتعلا، مازلت منشغلا بالحرب والفتن.)ص44
والفضاء عند محسن العبيدي أيضا امرأة هي الحبّ والوطن والسّكن والسّكينة وهي الوردة المتكتّمة على الأحزان.
وهو يلجأ إلى الشّعر لواء يرفعه للتّغيير ومشرطا يجتثّ الوجع في محاولة منه كما في قوله(كنت أحاول أن أجمع القوم حول المكان./كنت أسير، أسيرا لنفسي
وصوت الطّفولة فيّ يثور.) ص14/16
وتتراوح الأمكنة بين القرب والبعد، بين الانفتاح والانغلاق ، بين الضّيق والبراح وبين الوحشة والجمال. وأثناء اصطدام صور الواقع بصور المتخيّل الحلم الّتي تراهن عليها الذّات الشّاعرة لتغيير فضاء رازح تحت الغبن والقٍرى ويرسمه لوحة فسيفساء وخريطة جديدة يضفي عليها من روحه ويهبها الجمال والحياة.
2_ التّناصّات
في صراع بين الواقع الموبوء والحلم المرتجى يرسم الشّاعر بالكلمات أوجاع القبيلة نشيدا ويحمل عنها مشاعل النّور ورايات النّصر، فينحاز إلى الإيحاء والمجاز، ويستنجد بالماضي التّليد وهنا يظهر الصّراع بين ذاكرته وما تحمله من موروث أدبي وتاريخي و بين حاضره المتفجّع وانفتاحه على الثّقافات الأخرى. وفي إسقاط لواقع محبط ومؤلم بالتّلميح أو إعادة الترتيب بالتّحويل أو بمحاكاة الملفوظ اللّغوي والاجتماعي يقيم الشّاعر جسر تواصل مع نصوص حاضرة بالغياب كما في معارضة للموشّح الأندلسي "جادك الغيث.."
للسان الدّين بن الخطيب. وفيه إحالات تذكّرية وتحويليّة في آن. بما فيها من هدم وإعادة تأسيس منح النّصّ الغائب مسارا دلاليّا جديدا، فقد تجاوز الشّاعر زمن الوصل والغيث إلى زمنه زمن الحرب والقحط. ومتح من رائعة أمّ كلثوم "الأطلال" وهي قصيد الوداع لابراهيم ناجي ، فكتب قصيده "شموخ" ص 65
وتصبح الأمكنة شخصيّات يحبّها ويفتقدها كالأمّ والأب (وفي الحلم راودني وجه أمّي/وفي سكرات الجنون ترائ أبي مثل نجم قديم) ويستنجد بالمهلهل باحثا عن سيفه ويذكر "كوزيت" فيكتور هيغو في بؤسها ويتمها كما يخبرنا أنه سئم "الحبّ والصّيف" في إحالة على فلم مصري قديم وهو يغازل "ريتا" درويش. ص57
ولا يفوته أن يلتحف بنرجسيّة الشّاعر، وهو يقول (سوف أبقى محسنا إن هم أساؤوا فارسا أحمي القصيد زارعا حبّا وقمحا في الصّحارى، في الجبال، في الخيال ، في القلوب.)
الخاتمة:
الشّعر فعالية دائمة التّشكل منحرفة عن السّائد.. مخاتلة كالزّئبق لما تحمله من طاقات متحوّلة ومختلفة..
إنّه روغان هويّة الجسد نحو عالم متخيّل كما يقول أحد النّقاد، اتّخذه الأستاذ محسن عبيدي خطابا ورسالة متعدّدة الأغراض.
بقلمي منى أحمد البريكي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق