تجليات التّشكيل الأدبي.. وحساسية التّعبير الفنّي..في قصة القاصة والشاعرة التونسية القديرة نفيسة التريكي “نجوى النشوى”
حين تدفع بنا المبدعة الشاعرة والقاصة نفيسة التريكي إلى الولوج عنوة إلى فضائها الإبداعي، فإنما نراها تسعى-بجهد غير ملول إلى أن تكون شاهدة على عصرها وفاعلة فيه بالقدر الذي يحتمله واقع المنع والإباحة، لذلك فهي تجرنا كما أسلفت دون وعي منّا إلى ذواتنا أو هي تذكرنا بها مشروخة مشظاة ..
ولا عجب فيما أزعم إذا علمنا أن هذه المبدعة (أيقونة الساحل التونسي وهذا الرأي يخصني) جاءت إلى القصة القصيرة من أبواب الحياة الشاسعة، وراحت تؤثث فضاء لغتها بالمجاز وبالإستعارة ذات الكثافة الحسية، والتوتر والإيحاء مما ساهم في إيجاد مناخات عالم قصصها المعبرة عن علاقة شخوصها المختلفة والمتوترة مع الذات والعالم الذي يتركها لمصيرها الأعزل وحيدة ضائعة، مستلبة ومقهورة بسبب الشرط الإجتماعي والوجودي المأسوي الذي تحياه،والذي يجعلها تنكفئ على دواخلها–المعطوبة–وتعيش في مناخ كابوسي مخيف لا تجد سوى الأحلام وسيلة للهرب،وإشباع رغباتها المستفزة والمحرومة.
..”وهي على تلك الحال من النشوة إذْ بيد تربّت على كتفيها تداعب شعرها وإذ ْ بصوت أليف يهمس في سمعها برقّة ودفء -حبيبتي،حبيبتي نجوى نجوى التفتت، علّها تجده حلمها القديم المتجدّد الأسطوريّ،ذاك الهوى المتوهّج في خلاياها ودمها عبر قرون ذاك الوله الدفّاق في قلبها المفعم بالشّوق والهيام..”
الراوي الذي يتحدّث إلينا في هذه-اللوحة القصصية المبهرة-شخصية متخيلة لا تكاد تختلف عن أي شخصية من الشخصيات المتخيلة التي تعرضها علينا القصة،الإختلاف الجوهري الوحيد أنّ حضور شخصية الراوي في هذا الإبداع القصصي لنفيسة التريكي-حضور محوري،يتغلغل في دقائق النسيج الذي تتألّف منه القصة،ونستمع إلى صوته وملاحظاته عند كل منحى،إلى الحد الذي تصبح معه القصة وراويها المحدث أمرين متلازمين،لا وجود لأحدهما ولا معنى دون وجود الآخر .
مبعث المفارقات في هذه اللوحة القصصية الرائعة للكاتبة/الشاعرة المتميزة نفيسة التريكي “نجوى النشوى” هو أن كل عنصر فيها يستدعي قرينه النقيض،استدعاء جدليا يجعل من الكتابة لدى-نفيسة التريكي- تضعيفات مرآوية للصور واللوحات والمشاهد،وتداخلا لا ينتهي من “المحاسن والأضداد” وفق تعبير الجاحظ.
إن سؤال الكتابة،على تعدّد مقاصده،لدى -نفيسة التريكي-،يتخذ طابعا اطراديا في كثير من نصوصها الإبداعية شعرا كانت أم نثرا،وهي لاترتبط بجنس أدبي دون سواه،في الشعر كما في النثر،بل إنهاه تتعدّى الكتابة،بدوالّ الكتابة إلى الكتابة بدوالّ فنون أخرى ..
من خلال-قصة نجوى النشوى-نستشف مدى حركيَّة وحيوية هاته القصة التي لا تخلو من ديناميَّة الأحداث.
تتميَّزُ القصة ببعض الخصائص الدلاليَّة،التي يمكن إجمالُها في خصائص-الحب العذري-الإدهاش،التلغيز والبعد الوجودي الذي يترجم -العشق-وكذا-لوعة الفراق-في زمن ضللنا فيه الطريق إلى المحبّة، في أبهى تجلياته،كلها ميزاتٌ تُفصِحُ عن هذا التكامل الذي يطول القصة ويجعلها غنيَّة في دلالتها.
وكذا توجد خصائص شكلية،كالقصر الشديد،والتكثيف،ووَحْدة الموضوع، والمشهدية،وأيضًا المفارقة،كلُّ هاته العوامل ساهمَتْ في جعل القصة زاخرةً بمؤهلات فنية بأن تمثِّل هذا الجنس الأدبي بامتياز.
لنقرأ معا هذه الشذرات التي تداعب-بلطف-ذائقتنا الفنية،وتحلّق بنا فب الأقاصي،وترحل معنا إلى عالم الحب النقي حيث الصفاء والتجلي:”ها انا اعانقك بلا حذر وكيد في طبيعة مزهار وهواء معطار وحب سخيّ مدرار،،ها انا اتكئ على كتفيك بكل ما في من هيام وإصرار واسرار ،،،،،نتصافى ،،نتحاور نتعاهد يشهد علينا البارئ المبدع الكريم اللطيف ،هنا في كنف الجمال والحرية والحب صفاء لطالما ناشدته أن يكون وأندشته لك وللطبيعة في أناشيدي..”
نجد القاصة هنا تعود بنا إلى مرحلة أساسية تعد بحسب التحليل النّفسي هي المكوّن الأساسيّ لشخصية الإنسان،فتقدّم لنا صورة إنسانيّة تعبق بعطر-الحب النقي-،وفيها تصوير للعلاقات العشقية المتشظية التي تجلت في أكثر من صورة أولتها-القاصة نفيسة-مع نفسها – الأنا وهي ثيمة نجدها عند معظم القاصين،يحاولون فيها العودة إلى دواخلهم وسط الضجيج والحياة الصاخبة التي تدنو إلى الخراب،فتنقل صورة الحبيب المتسربل بلوعة الفراق،محنة الإغتراب،والبعد القسري الناجم عن ازدحام الحياة بمطبات،محن وشدائد يغدو فيها-الحب-حلما-ولقاء الحبيبين نشيدا عذبا في فضاء الكون..” حكاياتي قدّت من الحروب والأمراض والجور والسجون والمعتقلات والخيام واللجوء لست انا من هجرك – مآقيّ بل هجّرتني ظروفي عنك في هاتيك الحياة المشحونة بالبغضاء والكيد والكذب والنفاق والغدر والتجسّس والخسران وها أنا الآن سعيد بك التقيك للابد في هذا الفضاء الرحب المزدان المزركش المعطر الخالي من الشرور، ها انا اعانقك بلا حذر وكيد في طبيعة مزهار وهواء معطار وحب سخيّ مدرار،ها انا اتكئ على كتفيك بكل ما في من هيام وإصرار واسرار ،،،،،نتصافى ،،نتحاور نتعاهد يشهد علينا البارئ المبدع الكريم اللطيف ،هنا في كنف الجمال والحرية والحب صفاء لطالما ناشدته أن يكون وأندشته لك وللطبيعة في أناشيدي..”
الرمزية..ودلالات استدعاء صخرة سيزيف:
تستبدّ الدلالة بالتضعيف في متن هذه اللوحة القصصية المزهرة وذلك حين تستعيد اللوحة مقول النص الموازي: (صخرة سيزيف)*.وكأن الإيقون هنا يوقف دفق استيهام الجملة،ويعمل على تأكيده في الآن نفسه،بالنظر إلى المعرفة المستحصلة من خلال تفكير أسطوري بات بمثابة الحيوات المشاع،تساعد الإنسان على كبح الفادح والحد من جموحه وغلوائه..هي حتما المشجب الذي نعلّق عليه الأعطاب (قصة نجوى النشوى في جزء منها نموذجا).
لكن ما لا يقوله الكاليغراف** هو دلالة العبث التي تتفجّر بالنظر إلى الأحياز،وبالنظر إلى الحجم الذي تحتله الصخرة،والحجم الذي يحتله الإنسان عامة والمرمّز له هنا في هذه القصة التي طرزتها بأناملها نفيسة التريكي بسيزيف..
دلالات الحلم في قصة نجوى النشوى:
الحلم-في تقديري-يتيح إمكانيات هائلة وطاقة زاخرة تمكن من معالجة أي موضوع،بل إن المواضيع الحساسة هي أنجح المواضيع التي يعالجها الحلم. إن الحلم ـ كما أشرناـ إيقاع حداثي،فهو يفجر الطاقة الكامنة في النص،ويحرر العقل من سلطان المنطق،ويفسح المجال للخيال،فمن خلاله تعبر الرؤية وتخترق حدود الزمان والمكان.لكن تبقى الإيقاعات السردية الحداثية ـخاصة في القصة القصيرة ـ غير مدروسة بالقدر الكافي.حسبنا في -هذه القراءة المتعجلة للقصة اللذيذة: “نجوى النشوى” للقاصة التونسية نفيسة التريكي أن نكون قد أثرنا الموضوع،فلا ندعي الإحاطة والاستقصاء،بل يكفي أن ندلي برأينا في جنس أدبي،فيه من الغزارة والتنوع ما يعجز الباحث،وتنوء بحمله الأذهان.
لكن القاصة نفيسة التريكي-بكرها الأدبي-أبدعت حين باغتتنا بأن السرد الحكائي في هذه اللوحة القصصية الممتعة-لا يغدو أن يكون مجرد حلم..”في لحظة مباغتة احست الحالمة أمواج ان النفس انقطع عنها وجف حلقها فنهضت لتشرب وظل الحلم عالقا بها وكم تمنته حقيقة لكن ما أشسع ما بين الحلم والواقع تلاطمت الأحاسيس والأفكار بين المد والجزر في شجون وظنون وغضون أمواج وتمتمت ربااااااااااااااه اكل ذلك كان حلما؟؟؟..”
قصة رائقة تستوقفنا،من حيث نسيجها السّردي،و تقنية الأسلوب في هذا النّص البديع،فنحسّ بروح التّشكيل الأدبي،وحساسية التّعبيرالفنّي.
وبإمكانك-أيها القارئ الكريم-قراءة-هذه اللوحة القصصية المدهشة-في انتظار اختمار عشب الكلام..
محمد المحسن
*ما تخبرنا به أسطورة سيزيف أنه ليس بالضرورة أن يصل الإنسان إلى هدف في حياته وأن يحقق منجزات من نوع ما، ذلك أن هدف الحياة الأسمى تجدها في ذاتها، لا يقع المعنى في مكان خارج هذا السعي والكفاح ومواجهة الإنسان لمصيره وقدره، وهو إذ يكافح ويناضل ويتمرد يصنع نفسه ووعيه وقدره الخاص.(وهذا ما أشارت إليه-في تقديري- القاصة نفيسة التريكي بإمتياز)
** الكاليغراف:الإشارات التقليدية التي يمكن من خلالها توصيل اللغة ،مع معرفة المهارة لجعلها سهلة لترتيب الأجزاء المختلفة من تلك الحروف ، مع توفير الانسجام في النسب ، والتي يكون سهل التعرف عليها عينا من قبل ذوي الخبرة ، كتكوين عمل فني سلس وجميل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق