من مذكرات تلميذة
لما رسبت في السنة الخامسة قرر أخي المعلم الزيتوني نقلي إلي المدرسة الابتدائيه الحديثة البناء التي كان يعمل بها.. اول ما شدني إليها هندستها المعمارية العصرية...كانت تتكون من طابقين قاعاتها فسيحة.. مضيئه ، اروقتها ممتدة، ساحتها مشجرة، ملعبها مجهز.. بها كل مايحتاجه التلميذ والمعلم من مرافق ..في تلك السنة بدأت تدريجيا تجربة تعميم الاختلاط بين الجنسين في التعليم فكنا في القسم قلة قليلة من الإناث وكثيرا من الذكور.. سبب لنا ذلك بعض الحرج..اصبحنا محط أنظار الفتيان.. يغارون منا، يسعون لمشاكستنا خاصة في حصة الرياضة فنتخاصم، نتشاجر.. لكننا لا نلبث ان نتصالح وتنطلق ضحكاتنا في تلقائية وعفوية وصخب.
كنت الفتاة المدللة عند معلم العربية لتميزي في مادة الإنشاء.. فلا يفتأ يصطحبني معه إلى بقية أقسام الخامسة لأتلو عليهم تحاريري وقد ملأني ذلك اعتزازا، ضاعف ثقتي بنفسي،حفزني على مزيد بذل الجهد وصقل موهبتي بالمطالعة والتدرب على الكتابة.
وكان من بين زملائي تلميذ متفوق يحتل دوما المرتبة الأولى يدعى يوسف ربطت بيننا الزمالة والصداقة ...وكم تنافسنا وتغالبنا في القسم إلا أنه ظل دائما يحصل على أفضل الأعداد في مادة الحساب والفرنسية .
كان يوسف تلميذا ضئيل الجسم، خجول الطبع، قليل الكلام.. فضلا عن القسم والساحة جمعنا الطريق .. فمدرستنا تقع على بعد خطوات من المدينة العتيقة وسورها الشامخ البديع تحيط به المساحات الخصراء التي تفنن العمال في العناية بها فغرسوا الأشجار المورقة الخضراء والازهار المختلفة الالوان... كنا نقطع الطريق كل يوم من باب الغربي مرورا بباب الجبلي حتى نصل طريق الأفران مشيا على الأقدام.. نشق المقبرة، نمر تحت القنطرة في طمانينة، نحمل محافظنا الجلدية وأحلامنا الصغيرة وطموحاتنا الكبيرة ..ثم تعترضنا دكاكين الحدّادين حيث تلتهب النيران في الأفران وتعلو ألسنة اللهب متراقصة في مشهد مثير والحداد بمطرقته الضخمة يطرق الحديد فوق السندان فتدوي ضربات المطارق ملعلعة، تردد صداها الاقاصي.
نمر بعد ذلك أمام حمام لوصيف فجامع الصافي ومخبزة الحمامي التي تفوح منها روائح الخبز الشهي تداعب الأنوف.. وينتهي بنا المطاف إلى المحطة أين سنفترق ... نتوقف لدقائق، نختلس من الزمن في غفلة عن الأعين لحظات نقضيها معا في ثرثرة محببة إلى نفسينا قبل أن يودع أحدنا الآخر فأعبر الزنقة وأتجة نحو منزلنا في آخرها حيث ينتصب البرج كالقلعة يحيط به الجنان المغروس أشجارا مثمرة وخضرا ..كان يوسف يقطن بطريق قرمده قيقطع البطحاء حيث الدار المهجورة ، يمر بمعاصر الزيتون بأبوابها الضخمة وجدرانها العالية ترتفع كالحصون .. ينتظر الحافلة لتقله إلى منزلهم.
كنا طفلين بريئين ينعمان بمتعة التمدرس ولذة الصداقة وهامش الحرية الذي منح لهما فنتبادل الكتب، نتسابق من يتم قراءتها الأول.
ومرت الايام وتعاقبت الفصول وتخاصمنا قبل ان ننال شهادة ختم الدروس الابتدائية... حل الصمت محل الكلام و أصبح لا احد منا يجرؤ على النظر إلى الآخر و لا اللعب معه و لا حتى استعارة الكتب والمجلات... لم يفكر أصدقاؤنا في التدخل بيننا بالحسنى وإذابة الجليد... وإلى اليوم لا أذكر سبب القطيعة او ظروفها...بعد إجراء الامتحان الذي انتظرناه بفارغ الصبر التحق يوسف بالمعهد الثانوي للذكور بينما سجلت انا بالمعهد الثانوي للفتيات.. هكذا افترقنا دون رجعة وبقيت الذكريات عالقة.
لم يسع يوسف للاتصال بي ولا أنا سعيت لمعرفة أخباره وكأن المدرسة والقسم لم يؤلف بين قلبينا.. وكأن الطريق لم يعرف وقع خطانا .. وأحيانا كانت اخباره تصلني متقطعة عبر صديقة لي تجمعها به صلة قرابة.
منذ سنة علمت صدفة أن يوسف توفي إثر إصابته بمرض خبيث ... رايت صفحات من عمري تطوى... أحسست أن الزمن يغتالني وأن شيئا مابداخلي يتفتت .
أسماء المصمودي /تونس 2/1/2021
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق