كلمات تقطر وجعا..لصحفي جسور
صحافيون أبطال يحملون رسالتهم الإعلامية تحت نباح الرشاشات ونعيق المدافع..عقولهم تتمزّق بين الواجب المهني والخوف على سلامة عائلاتهم كلما دوّى صوت غارة،فضلًا عن سلامتهم الشخصية..بجسارة من لا يهاب الموت في سبيل إنارة درب الحقيقة،وكشف توحش الإحتلال المدجج بالكراهية والفولاذ..حملوا رسالتهم بمهنية عالية..وظلوا في عراء الخليقة الدّامي،تتقاذفهم الرّياح الكونية من زنزانة..إلى معتقل..إلى هواء يتهدّم..إلى أرض تنتفض..إلى عدالة عمياء..إلى قاض أخرس..إلى ضمير أعزل وكفيف..وإلى أمل يضيق ولا يتهدّم..إلى رصاص عديم الرحمة،منفلت من العقال..
وعلى شاشة الملأ الكوني،تترقرق الدّمعة الأكثر إيلاما وسطوعا في تاريخ صناعة العذاب،وتعلو صيحة الضمير الأعزل المعطوب،دون أن تُسمَع..!
ودائما : ثمة شهداء يسقطون..ودائما خلف القاتل،ثمة حلفاء وقضاة وجيوش..وخلف الضحية..العماء والصّمت..وخلف العماء والصّمت..شعب يقيم أعراسه على حواف المقابر: أعراس مجلّلة بالسواد ومبلّلة بالنحيب..أعراس دم..
صحافيون أشاوس دفع الكثير منهم ثمن رسالة عظيمة وجليلة حملوها بأمانة واقتدار.لذلك،حُقَّ لكل حرّ وعزيز وذي وفاء أن يغضب ويحزن ويثور على زمن تغتال فيه الكلمة الحرة على مرآى ومسمع من العالم..
هكذا كان-موتهم-فرجويا متوحّشا بدائيا ساديّا ضاريا عاتيا فاجعا..هو ذا القتل على مرأى من الدنيا والعرب..
غزة..لم تصب بقشعريرة ولا بإندهاش.إنّها ”تبكي” بصمت بنيها.
ضجرت ذاكرة التاريخ.ضجر الشهود.ضجرت الأسلحة والقوانين والمذاهب والسماوات،وضجرت أرواح الموتى..لكن-وحدها-شهوة القاتل إلى مزيد من الدم..لم تضجر!
الدّم يشحذ شهية الدّم..!
خلال حرب الإبادة على قطاع غزة ارتقى 204 صحفي فلسطيني أثناء توثيقهم لجرائم الإحتلال الغاشم ضد شعبهم، وأسعفت الحياة كوكبة منهم،أحدهم الصوت الجاسر أنس الشريف..فتابعوا ما نشره في صفحته،وأحبسوا دموعكم.. فلا وقت للبكاء..!
"470 يومًا من الإبادة.
تعبنا،لكننا لم ننكسر.
فقدتُ والدي، أقاربي، أصدقائي،وزملائي،ولكننا لم ننكسر.
فقدنا كل ما نملك،ولم ننكسر.
تعرّضتُ للتهديد عشرات المرات،ولم ننكسر.
نزحنا خمسين مرة،ولم ننكسر.
تألمنا بلا انقطاع،ولم ننكسر.
قُصفنا أكثر من مرة،ولم ننكسر.
عشنا في الخيام،ولم ننكسر.
حُوصِرنا من القريب والبعيد،ولم ننكسر.
أكلنا الشعير والذرة،ولم ننكسر.
متنا من الجوع والعطش،ولم ننكسر.
وأنا أكتب الآن،لا أعلم أين ستسكن عائلتي المكونة من أكثر من خمسين فردًا بعد الهدنة،لكنني أعلم أننا لن ننكسر.
لأن الله معنا.
هو نعم المولى ونعم النصير."
(الصحفي المراسل أنس الشريف)
وأنا لا أقول : إنّ الرأس تطأطأ أمام الموت من أجل الوطن،بل إنّ الرأس لتظلّ مرفوعة فخرا بشعب أعزل يؤمن بأنّ الشجرة إذا ما اقتلعت تفجّرت جذورها حياة جديدة،وتلك هي ملحمة الإنبعاث من رماد القهر وهي بإنتظار من يدخلها ذاكرة التاريخ عملا عظيما يشعّ منارة في المسيرة الظالمة التي تنشر ظلمتها قوى الشّر في العالم.
سلام هي فلسطين،إذ تقول وجودنا،نقول وجودها الخاص حصرا..فلا هوية لنا خارج فضائها..وهي مقامنا أنّى حللنا..وهي السّفر..
يا أبطال فلسطين : واصلوا سيركم بجسارة على درب الشهادة والتحرير،فنحن مازلنا نجترّ هزائمنا..مازلنا غارقين في عجزنا..ومازلنا نردّد كلمات فقدت جلّ معانيها..!
أمّا أنتَم..
..هناك كثيرون أمثالكم
أعلّوا وشادوا
وفي كل حال أجادوا
وأنتم كذلك أنجزتم كل الذي في يديكم
عظيما،جليلا..وما عرف المستحيل الطريق إليكم..
لأنّكم تؤمنون أنّ الخطى،إن تلاقت قليلا..
ستصبح جيشا و صبحا نبيلا..
تتمنون أن تصلّوا في القدس يوما..وأن يدفن الشهداء فيها..
لذا..
فعلتم الذي كان حتما عليكم
وما كان حتما على النّاس جيلا..فجيلا..
يا أنس:الدّمع الحبيس يحزّ شغاف القلب..الدّمع حبيس والرّوح خرقة وصدأ،ولكنّ الدّموع لا تمسح تراب الآسى،وسنسيء إلى الشهداء إذا وضعنا ملاك الحزن على قبورهم..إنّ عناوينهم معنا..إنهم قريبون منّا،إنّهم فينا،في قلوبنا..في ضمائرنا،وسيظلون نبراسا يضاء على هذا الدّرب الطويل..
سلام..هي فلسطين.
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق