حين يؤسس الشاعر التونسي الكبير د- طاهر مشي للتوحد مع الذات..والكون..
هناك في البرزخ القائم بين حياة يحياها وأخرى يحلم بها،يقيم المبدع التونسي الفذ د-طاهر مشي على تخوم الردهة المضاءة المسماة كتابة،مستمتعا بجحيم هذا الإنحدار الروحاني،يبحث عن لسعة نار ولو أحرقته،يعانق الشمس فقط كي يزرع حقول الأمل والبهجة والإنعتاق،يرفض الإنحناء أمام الليالي العاصفات مهما أوغلت في الدياجير،يحاور روحه المتوهجة،الخفاقة،المحلقة،المتمردة والموغلة في عوالم الصفاء والإشراق والتجلي..
يرفض التدثر بعباءة المؤسسة،يحلم بالإنفلات من عقال الوهم والخديعة ويؤسس للتوحد مع ذاته والكون..ينخر الإغتراب شفيف روحه أحيانا،فيلجأ إلى أبي القاسم الشابي حين يقول:”إنني طائر غريب بين قوم لا يفهمون كلمة واحدة من لغة نفسي الجميلة”..
هوذا،الشاعر الألمعي،المبدع الذي حلقت كلماته في الأقاصي،واخترقت مرارا سجوف الصمت والرداءة..
قلت هوذا د-الطاهر مشي..هوذا المبدع الحقيقي-كما أراه-يرقص رقصة”زوربا اليوناني”..تلك الرقصة التي تعانق برمزيتها سماوات المجد والخلود..ولا أظن أنّه سينزعج إذا أحسّ بأيد ملائكية ناعمة وهادئة تطرق باب عزلته بهدوءورقة ووضوح..لتنخرط معه في رقصه الطفولي وتتقاسم معه لذة الصمود والتحدي..ومن ثم يلجان معا عوالم الماوراء بحثا عن نبتة الخلود،ورفضا لمتاهات الفراغ العدمي وتأسيسا لحياة موشاة ببهاء الكلمة،جسارة السؤال وجمال الحيرة ليخلدا معا خلودا جلجامشيا في أحضان التاريخ..
فلغة د-طاهر مشي-لغة طازجة،مبتكرة،موشحة بالإبداع،مطرزة بحرير الإبتكار،وهو يشكّل حضورا متفوقا ومترعا بالعميق والجميل في حركة تصاعدية يزيدها توهجا في انتقاء لعبته الشعرية بعناية فائقة،ذلك أنّ هواجسه أوسع من ان تستوعبها قصيدة او ديوان شعري..
هذا الشاعر التونسي المتألّق -د-طاهر مشي يتصرّف في عجينة اللغة كما يشاء،واللغة تنبسط بين يديه كعاشقة مستسلمة لمداعبات الحبيب،يفرغ كل خزينتها وشحناتها وانفعالاتها ليعيد تشكيلها على شكل وحي من الشعر،وابنية واشتقاقات ولوحات ورسومات وصور وايقاعات بحرية رحبة فالمبدع القدير د-طاهر مشي وليد تجربة -عتيقة-،في المجال الشعري،كما له حضوره الوثير في الساحة الأدبية الإبداعية تونسيا وعربيا ،وقد استطاع بالتالي أن يفتح عالما جديدا لدلالات جديدة في عالم الشعر التونسي والعربي عموما..
ختاما..دعونا نستمتع بهذه اللوحة الإبداعية التي رسمتها أنامل -مبدعنا-ذو القامة الشاهقة في الإبداع بمختلف تجلياته الخلاقة (-د-طاهر مشي) وبإمكانكم جميعا أن ترقصوا على إيقاع الكلمات :
الْبَــــــــوْنُ حَـــــرَّاقٌ
مُنْذُ اِلْتَقَيْنَا وَهَذَا الْقَلْـــــــبُ قَدْ سُلِبَـــــــــــا
يَــــــــــا نَبْعَ دَفْقٍ وَمِنْهُ النَّبْضُ قَدْ شَرِبَـــا
لَا لَسْتُ أَهْوَاكَ مِثْلَ النَّــــــــــــــاسِ أَجْمَعِهِمْ
وَاللَهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَـــمْ أَقُلْ كَذِبـَــــــــــــــــــــــــا
يَجْتَاحُنِي طَيْفُـــــــكِ الْأَيَّـــــــــــــــامَ يَسْجُنُنِي
فِـــــــــي حِضْنِكِ الشَّـــوْقُ يَرْمِينِي وَقَدْ نَشَبَا
أَسْوَارُ نَبْضِي تَدَاعَتْ دُونَ مَقْرُبَـــــــــــــــــةٍ
وَالْبَـــــــــوْنُ يُحْرِقُنِي حَرْقًا لِأَكْتَئِبَــــــــــــا
يَأْتِيكَ شَوْقِي بِلَا وَعْدٍ مُفَاجَــــــــــــــأَةً
وَالدَّمْـــــــــــعُ يَجْرِي مِنَ الْأَحْدَاقِ قَدْ سُكِبَا
أَنْتِ الَّتِي لُمْتِنَا فِي الْقَلْبِ مَوْطِنُهَــــــا
لَا لـَـــــــــــــــــوْمَ يُغْنِيهِ هَذَا الْحُبُّ قَدْ وَجَبَا
تَشْتَاقُكِ الرُّوحُ مَهْمَا الْبُعْدُ فَرَّقَنَـــــــــا
وَلَـــــــــــــــــمْ نَجِدْ لِوِصَالٍ بَيْنَنَا سَبَبَــــــــــا
طــــــــــــــــاهر مشّــي
إن ما يَلفت النظر في هذه القصيدة أيضا هو الإيقاعية التي انبنت عليها،فلم يركب الشاعر مركب المتقشّف في هذا الجانب،وقد فعل هذا بتفرد ظاهر،فالقصيدة تجلت لي متحررة من ضغط الإيقاع المفتعل،إنه إيقاع أتى عفو الخاطر والقلب،ولم يتقصده الشاعر قصدا.هو إيقاع داخلي يأسر أذن السامع،إيقاع ينبني على تكرار الحروف والبنيات اللغوية،وينتج عن ما ينشأ بين الكلمات من علاقات عن طريق التجاور.
وأخير،وعلى سبيل الخاتمة أقول :
قاصرٌ هو الحرف عن الإمساك بكل خيوط إبداعك أيها الشاعر السامق..وأتمنى أن أكون قد طرقت بعضاً من ملامح الجمال بين ربوع قصيدتك الخلابة التي سنرقص على ايقاعاتها الجميلة-رقصة زوربا اليوناني-دون أن ينال منا الإرهاق والتعب..
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق