... .. القنبلة .. رواية / رضا الحسيني ( 17 )
كانت نظرات الضابط متعلقة بعيوني للحظات وهو لايعرف ماذا يقول لي ، لقد فعلي بي كل شيء خلال الوقت الماضي ، حتى من قبل صوت الانفجار ، لم يكن يصدق ما أقوله ، وحين تحركت عيونه باتجاه عساكره وجدتهم يتحركون على الفور نحوي يفكون لي قيدي الذي كان قد ترك معالمه في يدي وخرجت من عينيه نظرات اعتذار مع صمته المنكسر لسوء ظنه وتصرفه معي ، ووجدتهم يضعون تحتي مقعدا وكذلك مقعدا له ، وأسرع أحد المجندين باحضار الشاي لنا ، وعيناه ماتزالا تخشى مواجهة عيناي
..... ( مصاصة صاصا )
ولم يخرجنا من حالتنا الصامتة هذه غير طفلة تبكي بجوارنا ، فنهض الضابط مسرعا نحوها وهو يبتسم لها ، وربما ابتسامته هذه كانت جزءا من مسلسل أفعاله الاعتذارية لي ، حيث كنت ماأزال أتابعه
_ مالك حبيبتي ؟ ليه بتبكي ؟
_ ماما ، فين ماما ؟ عاوزة ماما
_ اسمك إيه حبيبتي ، أنا هجيبلك ماما ، قوليلي اسمك إيه
_ صاصا ، ماما بتناديني صاصا
_ تمام ياست صاصا ، بس اسمك إيه ؟
_ اسمي صوفيا
وهنا أمسك بجهازه على الفور وأخذ يردد
_ ألو عمليات ، هل تسمعني ، حوِّل
_ نعم أسمعك بوضوح ، حوِّل
_ توجد طفلة اسمها صوفيا تائهة من والدتها
_ ياعمو أنا صاصا ، ماما بتناديني صاصا
_ الطفلة اسمها صاصا أو صوفيا تبحث عن والدتها
_ ياعمو عاوزة ماما ، هاتلي ماما
_ اطمني حبيبتي ، دلوقتي ماما هتكون هنا ، بس ساعتها هتديني بوسة
_ هاتلي ماما بس ياعمو
_ ياعسكري ، بسرعة هات مصاصة أو عصير أو أي حاجة من هناك لصاصا
_ مش بحب العصير ياعمو
_ خلاص هات لها مصاصة
وانشغل الضابط بالطفلة صاصا وكأنه أراد أن يغير الحال المتوتر بيننا ، وظل معها يداعبها ويحاكيها لتهدأ حتى جاءت امرأة بمشاعر مختلطة بين الفرح والحزن ، كانت ربما من أجمل ما رأت عيني من النساء ، بشعرها الحريري الأصفر الممتد كحقل قمح ممزوج بأشعة الشمس الشتوية وعيون بنية توحي بأنها تعشق القهوة بجنون ومبسم يكاد يكون حبة كريز نادرة وجسم ممشوق ليس فيه شيء مما تتصف بها الكثير من النساء التي تهمل نفسها وهي مرتدية ثياب توحي بالثراء والرقي والأناقة والرقة بقليل من الاكسسوارات الذهبية ، وكأنها جاءت من عالم آخر وجاء خلفها رجل بمقام الأب المكلوم في حفيدة غالية ويكاد يخطو بصعوبة وابتسامته تغالب دموعه
كان اللقاء بين صاصا والأم الجميلة والجد المرهق يشبه لقاء السحاب الذي جمع بين أم كلثوم وعبد الوهاب مع كلمات أحمد شفيق كامل حين ولدت الرائعة ( انت عمري )
هكذا مرت علينا هذه الدقائق التي استطاعت بتفوق نقلنا من التوتر والعنف للحظات من الحميمية والمحبة والاهتمام ، ورأيت خلالها في هذا الضابط وجها آخر لم أكن أتوقع وجوده بداخله أبدا ، وهنا فهمت أن المسؤلية والتفاني في أداء الواجب والخوف على حياة الناس قد تهزم لبعض الوقت أي نواحي آخرى بداخلنا ، ولكن لا تقضي عليها ولا تلغيها تماما ، وأن لكل شيء بداخلنا وقت يكون فيه في بؤرة الشعور، ووقت آخر في هامش الشعور
... وغدا مع 18
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق