المواطن منّوبي
بقلم نصر العماري
كان المنوبي "متشلقحا" على عين قفاه ، يغمره ظل شجرة الخروب في أعلى الربوة.
اخضرار المكان يغري بالاستلقاء . فنبات "النّفلة والبوخريش" كسى الارض البور وزخرفها ملاءة ندية طرية شهية في لون الأخضر " الكباري" يغري حيوانات القرويين المنتشرة هنا وهناك...
كانت الشياه ترعى في شراهة دون ثغاء أو صياح. و الهدوء يخيّم ويسمح للشمس أن تغمر المكان بدفئها . وضوؤها يتسلّل برّاقا بين اغضان شجرة الخروب وينعكس على جسم "المنوبي" النحيل بين الحين والآخر كلما حرك النسيم الاوراق لتتراقص على انغام رقرقة مياه عين "سكرة " وهي تنهمر وتنساب جدولا بين أشجار الزيتون والزبوس والزعرور ونبات الاكليل وأم الرّوبيا ...
وتظهر السماء صافية يخرقها جبل السّرج وهو يُغدق- من غير حساب - ماءه الزلال ويدفعه في سخاء نحو تجاويف وادي الخروب ، فيحتضنه في حنو ورفق حتي لا تنشغل الحساسين والبلابل عن الشدو ولا الفراشات والنحلات عن الرقص...
شعر المنوبي بشحنة كهرباء تنبعث في جسمه وعيناه تلاحق فحل نعجاته التسع ،... بل الثمانية. فالنعجة التاسعة كانت من نصيب العمدة، كانت افضلهن ، اسمنهن وأجملهن...لكن العمدة " حمده " أصرّ على اخذها أو شطب اسمه من قائمة المنتفعين ... "كانت نعجة صُردي تعمل الكيف ... لو كانت بين اخوتها ، لكانت اول من بادرها الكبش بالاخصاب. " هذا ما جال بخاطر "المنوبي" وهو ملقى على ظهره ثم تمتم رافعا عيناه نحو السماء " الله لا تباركلو فيها "
ثم كمن يحدث نفسه "مابال هذا الكبش لا يطارد النعجات ؟... مع أان الطقس جميل والمرعى خصيب
... أيكون ...؟ قوي وعفي و قرونه طويلة ولا يلاحق الإناث ؟ ياربي تستر "
سحب "المنوبي" يده من تحت رأسه ومسح شاربيه وفتلهما ثم مطط جسمه و مدّ ذراعيه وعقد أصابع يديه وتطاول برجليه حتى ظهر ابهام قدمه اليسري من فردة حذائه البالي .وأحس كأن جسمه به طاقه تهد جبل السرج في لحظة ... فردّد قائلا "الحمد لله اما يلزم نجربوه "
جلس المنوبي واسند ظهره الى جذع الخروبة . وأدخل يده في جيب جمازته البنيّة. فجذب علبة سجائره "الكريستال" ، أخرج واحدة وألقى بها في خفّة بين شفتيه وأشعلها على عجل من قداحتة الصينية الصفراء التي اهدته اياها خطيبته. كانت عيناه تبحث عن زُهرة بين البنات اللاتي جئن لملء أدنانهن ماء.
لمح المنوبي أتانها الرّمادية ولم يلمحها وكادت تأخذه الظنون لو لم يسمعها تناديه من خلف الخروبة ... أسرع نحوها والبسمة تعلو محياه قائلا:
والله "طيحتي لي قلبي شُفْت البنات والبهيمة وما شفتكش "
شعر المنوبي بحرارة تملا كيانه والقوة تسرى في جسمه لكن سريعا ما تضاءلت مع صوت اخيها الصغير وهو يسأل:
- وأنا ماريتنش؟
فأجابه المنوبي في فتور :
- آه ريتك ...انت جيت معها
ضحكت زهرة وقالت :
- طبعا هو دائما معي اخي حبيبي
- انتِ تجيبي فيه بالعاني
ومدّ يده ليمسكها من يدها،فتراجعت الى الخلف والحياء يكسوها منبهة اياه:
- يزي مسعود يُخزر . وأضافت في جدّية "اسمع منوبي اعمل حل لروحك"
فأجابها مبتسما وبكل ثقة : السّنا ... الصّيف هذا... ان شاء الله اروح بيك ... توّه نقلك لا مسعود لا كرفوس
فرد عليه مسعود: أنا ديما معاها ... بابا وصّاني "وين زهرة وين انت "
فضكت زهرة وضحك المنوبي وناولته خبزتي قوجة دافئتين وقاروة حليب رائب وهي تودّعه متحجّجة أن صويحباتها البنات في انتظارها
ثم غادرت وهي تمسك بيد مسعود وعيناها لا تكاد تفارق عيني منوبي الذي وضع حافة جردقة الخبز في فيه ويهّم بقضمها ولا يفعل وأخذه الشرود فكأنه يحضن محبوبته زُهرة ...
استلقى المنوبي من جديد اخذ يتناول الخبز مع الحليب وهو يردّد : العام هذا باهي ان شاء الله يتاومو الثمنية ... ثم تذكر الكبش واضاف في مرارة: الله يهلكو تقريب عطاهولى خنثى ذكر ...يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق