" نَصٌّ وَ قِرَاءتَان " ..!!
" الثانية " ..!!
*******************
" التَّنَاص و المُتَوَالِيَات السَّردِيَّة .. !! " .. د.مهندس / إياد الصاوي .
*******************
النص
بسيمياء
سقط النصيف حين مرّ طيف شاعرها وهمس ملتاعاً:
- "بسيمياء، لا تتركيني للظلال."
لكني لم أجرؤ على الاعتراف له بأن الملك النعمان يحتجزها في غرفتها الوثيرة، تتلوى من الألم.
حلم بامتلاك جسدها الذي فتن لبّه، لكن روحها بقيت هائمة وراء الطيف، وهو يتتبع خليط العبير المبثوث على كل الجدران، فقد اعتادت بسيمياء أن تخلط الطيب والعنبر، وتأمرني أن أمرغ به عتبات القصر وجدرانه حين يمر الطيف؛ ليكون العطر كينونةً تهبه منحة الوجود ...
- حين سقط النصيف طار من قلبها خوف الوشاة، وأطلقت في فضاء الروح عشق الجمال، بعد أن تناهبت سيوف مليكك جسد شاعرها الوسيم، وجعلته أشلاء منثورة على الدروب. فصار طيفا أسيراً في قصرها يبحث عن خلاص.
فأنشد أنت ماشئت من القصيد ، وسأغني أنا ما شاء الغناء، فجسدها الملكي الذي يسري فيه عطري المسموم الآن؛ ممهور بالسبي الأبدي لطيف لا يبرح ظله.
يا زياد ...
- حين سقط النصيف، أسقطك الهوى، غلبك حسنها، وطغت عليك هالة الوجد المهيب.
مليكك يتحرق لكلمات تبّرد لهيب قلبه المصلوب على خشبة حب مغدور، فماذا فعلت ماوية كما تسميها أنت، أو بسيمياء كما يحلو لملكك أن يدعوها، حين يضج به الشوق، ويفيض من جنبيه الشبق فيفحّ في أذنها فحيحاً معذباً باسمها القديم؟! تدير ظهرها لجموح رغبته وسطوة ملكه، بينما تصوغ كل صنوف غوايتها لشاعرها الشاب، تهيل عليه مطراً من فضة جسدها، خصرها موسيقى وخلخالها سرّ، ولسحرها خضع المفتون، فأوقدت عليه أتون الشغف.
أتظن الطيف يرى أو يحس؟!
هو حظك الملعون شاء أن تقع أسير فتنة عطرها، ونعومة أصابعها، حين التقطت طرف النصيف فعقدت فيه روحك حين عقدته وأصابت قلبك سهام اللحاظ...
فأي غواية حملتها لك ذرات الهواء التي تنبثق من طيبها
وأي جنون حملك لتكتب شعراً لم تسمع العرب مثله؟!
و أي شفق مدمّى بلون سماء الشوق يحملك لتطوف في حنايا قصرها ملتاعاً تلتقطك ظلال فتنتها؟!
وحين تصمت ألحاني وتستطيل حرقة صدري، فأصير انعكاس الظل في صورة إنسان لايملك إلا النحيب وبعض الغناء، تدعوني بصوتك المبحوح:
-" يا رؤبة إليّ ببعض ضوء من سراج يوقد في روحي الجمر حين أتمتم باسمها ... نغّمي شعري وصوغيه لحناً نطق به مفتون مثلي. فطار في البلاد. "
أغني شعرك الممسوس بالعشق ، فيتماهى مع سحر مسامات صوتي الذي ماصدحت حنجرة بمثله.. فأي شغف يدفعني لأتتبع خطواتك على الدرب حين تسلكه على خطو عطرها. وأنا أتساءل:
من يلهث وراء من؟
تجيبني اللهفة، تحضرك موسوماً بذاك السحر المسبوك قصائد تنهلّ من صوتي، وتتحدر كسرب غزلان في صحراء رحلتك العطشى. أهيل على الكلمات وهجاً من تبر صوتي، فتنة تكتنفها الأسماع، وتجعلها وشماً في الروح لايخطئ العطر والصوت واللحن الفريد. ويبرز السؤال من جديد
- أهو أنت؟!
- ومن أين لي ان أعرف أنه ظل شاعرها العاشق وليس أنت؟!
يهمس الطيف المأسور منتحباً:
- إليّ بصوت يكفن روحي وهي هائمة في شهقة من همس عطر أزلي السحر. فأطلقي صوتك يا رؤبة بالغناء، فظلي يحتضر، وروحي يحملها العبق إلى سر جسد ماوية المرصود، فأغنيه :
وهو يتمتم : أحرقني يا عشق ماوية ففيك تختزل كربتي.
أستذكر ساعة أسدلتُ الستارة، التي تفصل بين حجرتها الخلفية وبين بلاط الملك، ماوية منتشية بحضوره. ذاك الفتى الشاعر واسع العينين، جهوري الصوت،عذب الألفاظ .
حين خرج من البلاط، وقف عند الممر المعطر. خرجت هي من غرفتها فتلاقيا وهبّ العبير
سقط النصيف حينما مرّوا جميعاً، رفعت يدها تختبئ من عيون الناظرين، تتوارى وراءه خوفاً من اقتحام العيون لحرم الجمال الذي طوّبته باسم شاعرها المحبوب حين همس باسمها ، فبُهت، و على أعتاب سحرها طار صوابه وصوابك وصواب مليكك الأرقش، فمزق بسيف سلطانه جسد الفتى، وشرّدك أنت في البلاد.
-(كنت أظنها تقصدك يا زياد!)
هذا هو سريّ الملعون ...
في تلك الليلة حين كنت تستعد لهروبك الأخير، دخلت بسيمياء غرفتها وهمست لي:
- الملك سيكون ضيفي لهذه الليلة. قومي يارؤبة حضّريني.
قمتُ، غسلتُها بماء الورد ومشّطت فرعها بالزعفران... مسحت عن عينيها دموعها فهمست لي :
- لا أقوى على ذلك يارؤبة .... لقد نزع روحي .
ضمختها بخليط المسك الذي يهيم النعمان بحبه...
ولا أدري أي يدٍ تلبست يدي فمزجته بسم زعاف.
أوقدت في المخدع شموعا معطرة بذات العطر ...
وجلست أنتظر مليكك وفاتنته أن يتمرغا بسميّ المعطر ...
لكن الملك ترك ماوية غارقة بالوجع، وخرج غاضباً من صدها الفجّ.... وتلك نجاة.
" ستبقى أنت الشاهد يا زياد فاشحذ شعرك."
ولابأس أن اخترت الهرب إلى مجاهل الصحراء فتلك نجاة أيضاً.
أما العاشقان وحدهما من خانهما العطر.
وهأنا وحدي على جمر دموعي أشرب كأسي المسموم حتى الثمالة .
" المؤلف : ﻋﺒﻴﺮ عزاوي "
*************
القراءة الثانية :
*************
هذا النص السردي عبارة عن تناص موضوعي مع حادثة تاريخية وقعت للشاعر النابغة الذبياني ، الذي التقى مصادفة ب " المتجردة " جارية الملك النعمان بن المنذر ( زوجته ) ، وهام بها عشقا وكتب فيها قصيدة مشهورة مطلعها :
أمن آل مية رائح أو مغتد ..!
ولما سمع النعمان بالقصة غضب عليه وهدده بالقتل ، ففر الشاعر إلى الصحراء وبقي مدة يكتب قصائد اعتذار للنابغة حتى عفا عنه ..!
وهذا النص الذي بين أيدينا هو نص نثري يروي الواقعة بطريقة إبداعية ..!!
سنقوم بتحليله تحليلا سيميائيا متبعين مدرسة باريس ، والبحث عن كيفية اشتغال النموذج العاملي في هذا النص السردي .!؟!.
وعليه سنعمد إلى إجراء تحليلي ، يتمثل في تفكيك الوحدات الألسنية إلى أجزاء شبه مستقلة قابلة للاشتغال كقصص منفردة .!.
ويتجلى لنا السرد في شكل متواليات سردية ، تشبه الحلقة مستخدما تقنية الفلاش باك أو الارتداد ، حيث تتولى " رؤبة " سرد الأحداث وهي جارية الملك وخادمة الحبيبة بسيمياء ، حيث تتداخل الأحداث وتتشابك معها أحداث واقعية وأحداث متخيلة فيلتبس على القارئ الحقيقي والخيال ، وتتداخل شخصية الشاعر مع الطيف ، حتى يصعب على المتلقي التمييز بين الشخصيتين شخصية الطيف وشخصية الشاعر زياد وهو اسم الشاعر النابغة ، فتتخذ الأحداث مسارا جديدا و منحى موازيا للمنحى الأول أو المسار الثاني !..
1- تقطيع النص حسب المقاطع الأساسية إلى مسارات سردية :
كخطوة أولية نقوم بتقسيم النص إلى مقاطع سردية كبرى ، تسمى مسارات سردية ،
فالتقطيع حسب ما ذهب إليه الناقد " عبد المجيد نوسي " في كتابه " التحليل السيميائي للخطاب الروائي " ، حيث يقول : " يعتبر خطوة أساسية في إطار التحليل ويمثل إجراءً عمليًا من إجراءات التحليل الأولى ، ويحدد فيها المحلل هدفا هو تقطيع النص أو الخطاب المحلل إلى مجموعة مقاطع وفق معايير للتقيطع ، " ..
فمقاربة النص مرتبطة بمعرفة وحداته التي على أساسها يتشكل المعنى الكلي أو ما يصطلح عليه البنية السردية للنص .!.
ويعتبر المعيار الزمني المعيار الأكثر اعتمادًا من قبل المحلل أو الدارس البنيوي وذلك لسهولة واستجابة النص له .!.
فالمقطع وحدة دلالية وخطابية مستقلة بذاتها تندرج ضمن حكاية أكبر تضمينا ، وعليه يمكننا وفق التحديد الذي وضعه " غريماس " تحديد المقاطع ، وأن نقسم هذا النص إلى ثلاثة مقاطع ، يتضمن كل مقطع مسارا سرديا معينا ، وهي تجسد المسارات الأساسية الكبرى والتي تتجلى على النحو التالي :
1- المسار السردي الأول : الحالة الابتدائية ..!
يبدأ هذا المسار من " سقط النصيف حين مر طيف شاعرها ...... لطيف لا يبرح ظله "..
حيث تتحدد فيه علاقة الشخصية الرئيسة أو بطلة الحكاية ، وهي الجارية رؤبة التي تقوم بسرد الأحداث للشاعر زياد الذي عشق بسيمياء أو ماوية كما يحلو له أن يسميها ، التي التقاها أول مرة في بلاط الملك لما سقط عن وجهها النصيف ، وهو نصف خمار تضعه على وجهها أي ما يشبه البرقع لتستر به جمالها عن عيون الفضوليين في القصر ، ولما انكشف وجهها عشقها وذابت روحه في روحها وبادلته عشقا بعشق ..!
وجراء ذلك قام الملك باحتجازها في غرفتها ودست لها الجارية السم في العطر الذي تتعطر به للملك ، وهي تروي له أحداث النهاية منذ بداية النص ..!!
وتتوالى الأحداث تباعا ، حتى قتل الشاعر الشاب الذي استحال إلى أشلاء وبقي طيفه يردد اسم حبيبته كل يوم وليلة " بسيمياء لا تتركيني للظلال " ، وفي المقابل كانت بسيمياء تنثر العطر في زوايا القصر ، ليتحول العطر إلى حياة وصلة بين الروحين تحيل العدم إلى وجود " فقد اعتادت بسيمياء أن تخلط الطيب والعنبر وتأمرني أن أمرّغ به عتبات القصر وجدرانه حين يمر الطيف ليكون العطر كينونة تهبه منحة الوجود " ..!
وتتابع المتواليات السردية في مسار تصاعدي توضح مآل العاشق المظلوم ، الذي تردد حبه وعشقه لسيمياء بين جنبات القصر ، وتناهى إلى علم الملك ما كان من أمره ، فقطعه الملك بالسيوف أشلاءً ، وصار طيفا يجوب المكان بحثا عن الخلاص والانعتاق ، وعندما سقط النصيف وعشقت الشاعر وبعد موته تخلصت هي من خوفها لأنها لم يبق لها شيء تخشى عليه من سطوة الملك ، بل أصبحت اكثر جرأة وتحررًا ، وأصبحت عاشقة هائمة وفيّة لطيفها المقدس ( محبوبها ) : " حين سقط النصيف خار من قلبها خوف الوشاة وأطلقت في فضاء الروح عشق الجمال ..... خلاص " ..!!
وهذه الملفوظات السردية هي التي ساهمت في تحديد هذا المقطع ومساره .!!.
المسار السردي الثاني :
حالة التحول أو تماهي السارد والشاعر والطيف .!!.
إذ لابد من وضع عنوان لكل مقطع حيث طرح غريماس أهمية تحديد عنوان لكل مقطع وموضوعه عند تقطيعه ، والمقطع الثاني يعتبر أطول المقاطع نسبيا من المقطع الابتدائي والختامي لما فيه من معطيات وتحولات ..!
ويبدأ هذا المسار من : " يا زياد حين سقط النصيف أسقطك الهوى .....ومن أين لي أن أعرف أنه ظل شاعرها العاشق وليس أنت ؟!. " .
حيث يكشف هذا المقطع عن أبعاد صوفية حيث تتخلص الروح من آسار الجسد ، وتهيم في الملكوت المقدس فداء للحبيب وللعشق ، الذي يبدأ بشرارة من عين الحبيبة وتنتهي بتحول الحبيب المفدى إلى مادة هلامية تتحرر من عناصر الجسد الترابية وتكمل مسار الحياة الأزلية بعيدا عن رغبة الجسد الفانية ، وولاء لرغبة الحب الخالد الذي لا يفنى ، بل يزداد قداسة وتعتيقا كلما مر عليه الزمن ،
لكن الروح هنا وقعت في شراك الأسر جزاء لفعل الخيانة الذي تمجّه الشرائع ، وكأننا نعيش حالة من التقمّص الروحي أو " الكارمن " الذي تمارسه المتصوفة ، وتبغي هذه الروح الانعتاق والخلاص ولكنها تعجز عن ذلك ، كالمردة والشياطين الذين حبسوا في قمقم سيدنا سليمان وهي حالة تناصية مع الموروث الديني والصوفي .!!.
كما أننا نلمح بعض ملامح " الشيزوفرينيا " التي تجعل القارئ في حالة إرباك شديد يبحث عن الشخصية الحقيقة في هذا النص ، وتجعله يتساءل عن سبب حالة الانفصام الحالّ في الشخصية ، هل هي حالة تتعلق بشخصية السارد " الجارية رؤبة خادمة الملكة ، أو التي يصور لها خيالها المحموم وجود شخصيتين منفصلتين هما شخصية الشاعر الذي عشق زوجة الملك وفرّ إلى الصحراء أو شخصية الطيف الذي كان شابا شاعرا عشقته زوجة الملك وعشقها ، ثم قتلها الملك لما علم بذلك واستحال إلى طيف مسجون في القصر ، أم أن الانفصام وقع في شخصية الشاعر الذي رفض الواقع وفرّ بعيدا ثم عاد في هيئتة كي يبحث عن حبيبته التي تحتضر " ..!
حيث يكشف تطبيق النموذج العاملي الغريماسي في بنيته السطحية ومن حيث كونه نسقا عن أول علاقة في هذا النموذج وهي علاقة الرغبة التي تعتمل في نفس الشاعر و حبيبته بيسمياء لما سقط منها النصيف والتقطته ووقعا في الحب .. أي الرغبة في الوصال واللقاء .. : " يا زياد حين سقط النصيف أسقطك الهوى ، غلبك حسنها ، وطغت عليك هالة الوجد المهيب " ولكن حالت أمور دون تحقيق الرغبة ولم يحصل الوصال واللقاء ..!!
إذن ، موضوع القيمة المرغوب به من طرف الشاعر/ الحبيب هو الحب ، والفاعل هو القدر أو الصدفة التي جمعت بينهما في غير وقت ، والمرسل في هذا المقطع هو الملك الذي أرسل في طلب الشاعر حتى التقى بزوجته صدفة عند خروجه ووقوع النصيف عن وجهها ..
حيث حصل تحول في طبيعة العلاقة بين الملك وزوجته بعد ذلك وفي نفسية الشاعر الحبيب والحبيبة بيسمياء ، لكن للنتيجة بين الذات الفاعلة " الشاعر " وموضوع القيمة " الحب " ظلت انفصالا وليست اتصالا بدلالة عدم لقائه بحبيبته واتصاله بها بل عوقب بالموت الزؤام ..
أما المرسل إليه فهي بيسيمياء الحبيبة بالنسبة للشاعر والزوجة بالنسبة للملك والتي فشلت في تحقيق موضوع الرغبة وهو الحب .!.
ونلاحظ هنا أنّ علاقة الصراع في هذا المقطع بل في النص ككل لا تظهر جلية بل يمكن استخلاصها من خلال سلوك الفاعل " الشاعر " ، بحدوث صراع مع ذاته وتحوله إلى طيف بعد موته ، ثم عودته للحياة في صورة زياد الشاعر فهناك نوع من التشابك والاختلاط في الأحداث التي تصيب القارئ بتذبذب في الرؤية ويصعب عليه أحيانا الإمساك بتلابيب الموضوع والوقوف على حقيقة الشخصية ..!!
وهذا الصراع الداخلي لم تعلن عنه الملفوظات السردية صراحة بل كشفته حالات التحول في شخصية العاشق الذي يموت ويبعث من جديد في شكلين مختلفين ، مرة في هيئة طيف مسجون ومرة في هيئة شاعر مفتون ..!!
إن القدر بوصفه فاعلا في هذا المقطع والنص ككل يؤدي أيضا دور المُعارض الذي يمنع الشاعر أو الذات الفاعلة من الحصول على موضوع القيمة والوصول إلى جانب الملك طبعا الذي يلعب دور المعارض ، وكذلك الوشاة الذين أشاعوا خبر الحبيبين ، هذا على مستوى النسق ..
أما على مستوى التقنية :
فإن التحريك بوصفه أول مرحلة من مراحل البرنامج السردي يمكنه التحقق من خلال ملفوظات سردية تقدمها الخادمة ..
عن أول علاقة في هذا النموذج وهي علاقة الرغبة التي تعتمل في نفس الشاعر وحبيبته بيسمياء لما سقط منها النصيف والتقطته ووقعا في الحب .
أي الرغبة في الوصال واللقاء ..
: " يا زياد حين سقط النصيف أسقطك الهوى ، غلبك حسنها ، وطغت عليك هالة الوجد المهيب "
ولكن حالت أمور دون تحقيق الرغبة ولم يحصل الوصال واللقاء ..!!
، رؤبة التي تمثل دور السارد والموعز المحرك للأحداث في النص . حيث أدت رؤبة دورا إقناعيا للشاعر بوصفها مرسلا حملت أخبار الحبيبة بسيمياء إلى حبيبها وأخبرته عن التحول الذي أصاب الحبيبة بعد أن سقط النصيف ووقعا في حبه وبعد مقتل الحبيب نفرت من الملك زوجها وأخلصت لطيف حبيبها : " مليكك يتحرق لكلمات تبرد لهيب قلبه المصلوب على خشبة حب مغدور ..... بينما تصوغ كل صنوف غوايتها لشاعرها الشاب ، تهيل عليه مررا من فضة جسدها " ..!
وإمعانا في الإمعان والإقناع ليتحول إلى فعل تأويلي من طرف الشاعر فتبدأ بلومه ولوم القدر الذي رماه في طريقها فتقول له : " هو حظك الملعون الذي شاء أن تقع أسير فتنة عطرها ، ونعومة أصابعها ..... وأي جنون حملك لتكتب شعرا لم تسمع العرب بمثله " ..!
فيتحول دور الجارية من مرسل إلى معارض وبالتالي تتناوب على تأدية دورين هما مرسل ومعارض في هذا المقطع ، لأنها تقوم بمعارضة فعل الفاعل وتحرمه من تحقيق موضوع الرغبة وهو الحب والوصال مع المحبوبة فتقوم بقتلها بعد أن ضمختها بالعطر المسموم ظنا منها أنها تتجهز لمقابلة الشاعر عشيقها وليس الملك زوجها ..!
إذ تشتغل البنية السطحية لهذا النص باتجاه الكشف عن التحولات التي ستطرأ على العوامل من حيث تبادل الأدوار، فالمرسل يمكن أن يتحول إلى معارض أو مرسل إليه أو مساعد والعكس ، ..!!
وبهذا تمتلك بنية النص أو القصة شبكة علائقية تخدم النموذج العاملي الغريماسي وتثريه ..!!
ويكشف الملفوظ السردي للسارد " رؤبة " ، أن الملك أمر بقتل الشاب الشاعر " العشيق " وتمزيقه بسيوف الجند ، فالجنود مرسل إليه وفاعل في الوقت نفسه لأنه قام بتنفيذ موضوع الرغبة في هذه المرحلة وهو قتل الشاعر العشيق والتخلص منه ، حيث أن سلطة الملك هنا كفيلة بإقناع الجند بالحصول على رغبته وهي القتل ودون معارضة .!!.
تساعد عملية تبادل الأدوار بين العوامل على إخراج النص من حالة الجمود إلى حالة الحركة والتغير .!.
وبما أن حالة التحريك في البرنامج السردي تعتمد على الإقناع ، فإن الجارية رؤبة التي كانت مرسلا في البداية ثم معارضا تتحول إلى فاعل ،
وموضوع الرغبة هو ميلها وحبها للشاعر من خلال أشعاره التي كان يتغنى فيها بحبيبته الملكة ماوية كما يسميها فكان هو ينشد الأشعار وهي تغنيها بصوتها العذب ، ولكن غيرة واضحة في النص لكنها تنجلي من خلال سلوك الجارية التي تحاول قتل الملكة بالسم حتى يصفو لها الجو وتستأثر بالشاعر لنفسها : " وحين تصمت ألحاني وتستيطل حرقة صدري ، فأصير انعكاس الظل في صورة إنسان لا يملك إلا النحيب وبعض الغناء " ، وتتأكد هذه الرغبة حين تصرح : " أغني شعرك الممسوس بالعشق ، فيتماهى مع سحر مسامات صوتي الذي ما صدحت خنجرة بمثله .. فأي شغف يدفعني لأتتبع خطواتك على الدرب حين تسلكه على خطو عطرها ،
وأنا أتساءل : من يلهث وراء من ..!؟ " فقد تحولت هي إلى طالبة ورغبة في الحصول على حب الشاعر .!.
التحريك عندما تتحدد الحركة السردية يتحول إلى " فعل إقناعي بالدرجة الأولى أي أن المرسل يحمل الذات " الفاعل " على تبني مشروع معطل وتنفيذه " أي يتم من خلال مرحلة التحريك إقناع العامل " الذات " من قبل المرسل بالبحث عن موضوع القيمة ، إذ هذا التحفيز داخل البعد الذهني يجعل منه مرحلة سردية سابقة على الفعل حديث المعنى وتحدده في الوقت نفسه ..!!
حيث يتمفصل التحريك في فعلين أساسين :
فعل إقناعي يقوم به المرسل ، وفعل تأويلي تقوم به الذات ..!
والتحريك هو : ممارسة فعل ما بهدف والدفع به إلى القيام بإنجاز ما ، فالتحريك يرتبط أساسا بالإنجاز حسب مفهوم غريماس ..!
وهذا ما رأيناه حسب التحليل السابق " وهي المرحلة السابقة ".
وتأتي المرحلة الثانية وهي الأهلية أو التأهيل وهي المرحلة الثانية من مراحل البرنامج السردي ، وتهدف إلى إبراز كينونة الفعل و أي تنفيذ للبرنامج السردي بتوفر الظروف اللازمة لتحقيق الإنجاز من قبل الفاعل الإجرائي أي هي الدافع للفعل ، أي هي فعل الفاعل والدليل على مقدرته ، ولتحقيق الفاعل للإنجاز لا بد من توفر مجموع الصيغ المتعلقة بالأهلية والتي حددها غريماس كما يلي :
" معرفة الفعل ، قدرة الفعل ، إرادة الفعل ، وجوب الفعل " ،
لتأتي آخر مرحلة في البرنامج السردي وهي الإنجاز ..!!
والإنجاز هو فعل يؤدي إلى الحصول على الموضوع/ ، وهو فعل الكينونة ويتحقق هذا التحول عبر نوعين من الملفوظات السردية ملفوظ الحالة ، والتي تقوم بتحديد الحالات التي تمر بها العوامل ، والثاني هو ملفوظات الفعل التي تقوم بتحديد أشكال التحول، أي الحالات والتحولات الحاصلة في النص أو الحكاية أو القصة أو الرواية .
تتحول رؤبة الخادمة في هذا المقطع الوسطي إلى مرسل إليه وذات فاعلة في الوقت ذاته والمرسل هنا يتمثل في شخصية معنوية وهو الغيرة أو الحب الذي دفع بها إلى قتل الملكة وتحضر القناعة هنا بإنجاز هذا الفعل حيث تتولى رؤبة الخادمة مسؤولية البرنامج السردي الذي توصلت إليه بدافع الشغف وعشق أشعار الشاعر وشخصه فتحول الشاعر الذي تطارد طيفه حبيبته بسيمياء إلى مطارد من قبل الخادمة وبعد موت بيسمياء يتحول الشاعر إلى مطارد لروح بسيمياء فمن هو الطالب ومن هو المطلوب : " فأي شغف يدفعني لأتتبع خطواتك على الدرب حين تسلكه على خطو عطرها وأنا اتساءل : من يلهث وراء من ..؟ ".
إذن بعد توفر عنصر الكفاءة أو التحريك الآن سنرى كيف ستتحقق الأهلية أو الأداء التي توقف تحققها على صيغ للفعل وهي :
1- وجوب الفعل :
ويتمثل في المسار الثاني هذا في تذكير الجارية الشاعر بفعل الحب الذي وقع بينه وبين ماوية أو بسيمياء بعد لقائهما الأول بعد سقوط النصيف : " حين سقط النصيف ، أسقطك الهوى ، غلبك حسنها ، وطغت عليك هالة الوجد المهيب " ثم أردفت بعد ذلك فوصفت حالة بسيمياء وتغيرها على الملك بعد أن تعلقت به وغضب الملك منها : " تدير ظهرها لجموح رغبته وسطوة ملكه ، بينما تصوغ كل صنوف غوايتها لشاعرها الشاب .... ولسحرها خضع المفتون فأوقدت عليه أتون الشغف " ..!
2- معرفة الفعل :
وقوع المحظور " هو حظك الملعون شاء أن تقع أسير فتنة عطرها ، ونعومة أصابعها ، حين التقطت طرف النصيف فعقدت فيه روحك حين عقدته وأصابت قلبك سهام اللحاظ ".. ثم تنتقل عدوى الحب إلى الساردة رؤبة وتصبح هي المطالبة بالحب فتخطط لتنفيذ مخططها بمزج العطر بالسم للتخلص من بسيمياء ..!
3- قدرة الفعل :
أشار النص من خلال ملفوظات الساردة رؤبة : " تحييني اللهفة ، تحضرك موسوما بذاك السحر المسبوك قصائد تنهل من صوتي .... ومن أين لي أن أعرف أنه ظل شاعرها العاشق وليس انت ؟!" ..!
4- إرادة الفعل :
بما أن رؤبة تملك قناعة أولية بأنها يجب أن تتخلص من بسيمياء بحجة ميلها للشاعر فإن إرادة الفعل ستكون موجودة وبالتالي فإن الأهلية ستكون محققة مما يسمح بالانتقال إلى المرحلة الثالثة من مراحل البرنامج السردي وهي الإنجاز الذي يمثل جوهر هذا البرنامج لأنه يشتغل باتجاه تحويل الحالات إلى أفعال إجرائية ، وتتمثل الحالات بالملفوظات التي جرى تبادلها بين رؤبة والشاعر الذي فر إلى الصحراء وعاد باحثا عن حبيبته بسيمياء .. وهكذا تكون الذات الفاعلة رؤبة في اتصال مع موضوع الرغبة وهو القتل بعدما كانت في حالة انفصال عنه وتتمكن من دس السم في العطر وقتل بسيمياء ..!
لتأتي المرحلة الأخيرة من هذا البرنامج :
وهي الجزاء أو الحكم ،
حيث يقوم المرسل بتقييم وإصدار حكم على الأفعال التي حققها فاعل الإنجاز ، وبما أن المرسل الأساسي هو القدر الذي كان نافذا لا محالة وفاعل الإنجاز هي الخادمة رؤبة فإن المرسل من واجبه أن يقدم واجب الجزاء للذات الفاعلة التي قامت بإنجاز الفعل وحققت إرادته ؛ وبما أن الجزاء من جنس العمل فقد عوقبت بالحسرة والندم وقتل حبيبها ..!
وبهذا تحقق للبرنامج السردي الاختبارات الثلاثة :
الاختيار الترشيحي ، والتأسيسي والتمجيدي ..!
المسار السردي : الحالة النهائية أو الاختتامية :
الخذلان والندم ..
يبدأ من : " يهمس الطيف المأسور منتحبا .... كأسي المسموم حتى الثمالة " ..!
يعرض هذا المقطع الوضعية النهائية للقصة ، وما ستؤول إليه مصائر عواملها ، وعنوانه هو الخذلان والندم ، أما موضوعه فهو القدر واقع لا محالة انكشاف السر . ويقدم الملفوظ السردي إقدام رؤبة على كشف السر للشاعر والذي يتمثل في تخطيطها لقتل الملكة بسيمياء والملك المنذر بالعطر المسموم ولكن نجا الملك بعد أن غادر الحجرة مغاضبا بعد أن صدته بسيمياء ، بينما تمكن من الفتك بالملكة : " كنت أظنها تقصدك أنت يا زياد ، هذا هو سري الملعون ... في تلك الليلة ... ولا أدري أي يد تلبست يدي فمزجته بسم زعاف وأوقدت في المخدع شموعا معطرة بذاك العطر لكن الملك ترك ماوية غارقة بالوجع وخرج غاضبا من صدها الفج ... وتلك نجاة ".. وتندم بعد ذلك على فعلتها تلك وتبقى أسيرة العذاب والحسرة : " وها أنا وحدي على جمر دموعي أشرب كأسي المسموم حتى الثمالة " ..!
في النهاية يمكن القول :
...............................
يمتلك النموذج العاملي الغريماسي كفاءة واضحة في التطبيق على النص ويمكن الاكتفاء بأحد مستوياته نظرا لسعة طروحاته ومقولاته وتقسيماته الدقيقة وخطواتها الصارمة ، وهذا ما اعتمدناه باختيار يساوي البنية السطحية لتطبيقه على النص ..!!!
وحين نتسلّقُ عصب المجاز ونتعلّقُ بالغيوم فإننا نخرج من دائرة السكون إلى فضاء أوسع من لهفتنا .. فنغدو أحرفَ هجاء تبحثُ _ في سرِّها _ عن دهشة في فصلٍ أخير يقفُ علامةَ تعجب آخرَ الرواية !
كجائعين للحياة نلتهم صهيلَ الشمس .. !!
د.إياد الصاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق