زلزال كورونا
(إنّ الفاصل الأخلاقي الّذي تمّ رسمه بعناية مقدّسة بين “الإنسانيّ” و”الحيوانيّ” من أجل الدّخول في عصر “الآدميّة” (نعني سيادة البشر على الحيوانات باسم تفويض إلهي) هو نفسه قد انهار بشكل مرعب)
الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني
الخلاصة:
التباين بين السرعة والزمن: العالم تحت سطوة كورونا فيروس يتعرض لزلزال يفوق مقياس ريختر ولكنه على النقيض من حيث السرعة ويعوض ذلك بالتعسكر في معظم بقاع العالم فبات لزاماً علينا العيش بدون يقينيات حيث فقدنا أجواء السكينة المعتادة لصالح الجانحة التي زلزلت كل فرد منا ولو بنسب متفاوتة, سيتم تقويض الفيروس عاجلاً أم آجلاً ولكننا لن نعود إلى العيش بذات الطقوس, ثمة هدم وردم في معظم المساحات الفكرية والحسية في أعماق ذواتنا, سنكتشف أوجهاً مغايرة لنا وللآخر ويتوجب علينا إعادة بناء المنظومة الأخلاقية وعلى مختلف الصعد.
المناخ العام المواكب والحاضن لتوهج الفيروس بهذه الصورة المرعبة: ارهاق ومحاصرة العقل المجرد بالعلوم المفرطة لقطع الطرق المؤدية لاكتساب العقل النقدي هذا من جهة, هنا ألا يكفي لو قمنا بترسيخ الرادع الأخلاقي لدى أطفالنا بالتزامن مع تعليمهم القراءة والكتابة وإجراء العمليات الحسابية الأساسية بسلاسة ومنحهم فضاء للتأمل ومحبة الحياة كبديل عن المناهج مسبقة التحضير والمنبثقة بدورها من المنظومة المعرفية المتحالفة وبشكل استراتيجي مع السلطات وبشكل عميق منذ الثورة الصناعية الأولى وتدار العلاقة بينهما من قبل المنظومة العميقة التي تدير العالم وتهدف إلى توظيف إمكانيات الكائن البشري للوصول إلى الهيمنة الاقتصادية الكاملة.
وفي الرواق الآخر السعي الحثيث للوصول إلى أقصى استثمار للطاقة وما يسمى الطاقة النظيفة من خلال تجريد الكائن البشري من جُلِ مشاعره عبر محاصرة عقله وحواسه التي تستنزف من خلال التركيز على العمل الذي يتطلب جهداً ذهنياً عالياً ولا يملك فرصة لمحكاة الذات أو ما يسمى الصوت العميق الداخلي عبر الآخر لتنمية المشاعر من وقت إلى آخر.
ثمة معادلة متباينة الأثر يتحتم علينا الولوج في دهاليزها ومن زوايا متناظرة وعبرَ مرايا مقعرة ومحدبة ومن مسافات حسية وسيمائية واستنباط أبعاد الحالة بقراءة إبستبولوجية لتحقيق أركان البراهين التي يفترض أن تحمل في ثناياها أعلى منسوب من بذور الحقيقة فإن الناظر المتمكن إلى شكل العالم المُزري والهزيل تحت سطوة الوباء المتفشي في كافة بقاع العالم والمتمثل بفيروس كورونا المستجد الذي بات يجول العالم وبشكل سيركي وسحري ووقوف العالم المتحضر شبه عاجز أمام مواجهته, وما أربكنا نحن أبناء الشرق هو إعلان الهزيمة العلمية في معظم عواصم صناعة القرار بشكل استباقي في الفضاء العام.
وبلغ الألم ذروته في سياق الحوار الداخلي بين ذواتنا حيث تراءى حجم أضرار التكنولوجيا على معظم المساحات في اللامرئي ففي الأزمات تتبوأ الحركات اللارادية منبر الحركة فيمكننا وعبر بصيص من التأمل أن نكتشف حجم الشروخ التي أفسدت جوهر اللاوعي والمتمثل هنا بالإنقلاب شبه التام في مصادر كينونتنا والقائمة على عدة محاور يمكننا أن نختزلها بجملة واحدة, وهي أن الكائن البشري الذي واظب على الاحتفاظ بسر سكينته عبر معظم العصور التي مر بها فالشائع والمتعارف عن الإنسان بأنه كائن اجتماعي بالدرجة الأولى وكائن تاريخي بالدرجة الثانية ولكن وفي ظل نتاج الحداثة بات الكائن الاجتماعيُ كائنُاً فردياً بامتياز هيأ له النظام العالمي الجديد أو ما يسمى الفوضى الخلاقة معظم أجواء الاستقلالية من منظومة من التأمينات وفرص العمل ومنحته فضاءات من الفوضى لإشباع جوهر غرائزه البدائية وبشكل شبه مشاعي حتى فقد الجسد جل أسراره , فلم يعد خافياً على أحد ما كان يسمى بحرمة الجسد وبثت مراكز القرار سيول من التحاليل والنظريات المتضاربة , عبر الخطاب المتفق عليه بين السلطتين المعرفية والسياسية وفي هذا السياق يمكننا أن نعود إلى ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو 1926- 1984 في كتابه الذائع الصيت حفريات المعرفة حيث يفكك منظومة التتابع التاريخي ويحولها إلى فكرة الخطاب السائد في ثقافة معينة وما ينتج عنها بمثابة استجابة لالتقاء استراتيجيات القائمين على السلطة والقائمين على مفاصل المعرفة, هنا يأتي دور أصحاب الموهبة والإرادة وأحياناً تمنح السلطة امتيازات لأفراد معينين ولا تمنحها لغيرهم في ذات المكان والزمن وفقاً لمن يطبق أجنداتهم, والأمثلة لا حصر لها في هذا السياق ففي الولايات المتحدة أخذ توماس أديسون مساحات من الدعم من القائمين على السلطتين المعرفية والسياسية على حساب آخرين وفي ذات السياق لم يأخذ نيكولا تيسلا جزأً مما أخذه أديسون ولكننا لسنا الآن في محضر مقاربة التفاصيل والحيثيات في هذا الرواق .
وبالعودة إلى دور الإعلام في إحداث أجواء الذعر في مختلف أنحاء العالم حيث قامت ببث رسائل مكتظة بالتضخيم المدروس والاحصإيات المتباينة من حيث الدقة مما أحدث موجات من القلق المتواصل والذي تحول في المجتمعات المتحضرة إلى أجواء من الذعر نتيجة الفردانية وانحسار العلاقات الاجتماعية أي أن البشرية عادت إلى حياة الكهوف من جديد هنا يظهر أهمية الجانب الروحي الذي يساهم بشكل عميق في إنشاء أجواء من السكينة حيث يتشكل نسيج من الألفة في الحقل المغناطيسي الذي يتشكل في الفضاء الحسي نتيجة الاهتمام من قبِل الآخر الحر,
وتابعت المنظومة التي تقود العالم علمياً واقتصادياً رسالتها مؤكدة بأن الفرد يمكنه أن يغدو مركز الكون متجاهلة منظومة الأجواء التي هي محور الحالة التي تساهم في ظهور الفرد المبدع وتمنحه الظروف المثلى لكي يبرز كفاءاته, هنا وقع الفرد في سيل الفخاخ التي ذهب إليها لاهثاً واعتقد بأن عصر الحياة الاجتماعية لم يعد يناسب عصر الثورة الرقمية واكتفى بالتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي من خلال الحاسوب أو هاتفه الذكي والذي يتطور بشكل سريع ومذهل, وفي مراحل متطورة ظهرت تقنية الصورة الذاتية وما يسمى سيلفي فكانت أشبه ما يسمى شعرة معاوية أي أنها قطعت آخر الخيوط التي تربط الذات مع الآخر هنا ثمة إقصاء تام لوجود الآخر الذي كان يمكنه في السابق مشاركتنا, هنا فقدنا حتى الحدود الدنيا للهامش الذي قد يتيح للآخر التواجد في فضائنا وربما سيقول قائل لماذا لم يتم الإشارة إلى الوجه المشرق للصورة الذاتية, ولكني هنا لا أتجاهل إيجابيات سيلفي فيمكننا أن نأخذ صورة لذواتنا في حال تواجدنا وحيدين في مكان ما ولكن سياق الفكرة في هذا الطرح منصب على أضرار التكنولوجيا على الجانب الروحي للذات الإنسانية.
وهنا وبالعودة إلى متن القوانين الطبيعية والقائمة على السائد والمتنحي في سياقات متناحرة متناغمة تخضع لمنظومة من المؤثرات ومن مسافات مختلفة وذات منشإِ مختلف أيضاً, ويمكننا إحالة محور حركة التاريخ إلى تحولات الطاقة والبحث الحثيث للوصول إلى الطاقة النظيفة, وبالفعل وصل العالم المتحضر إلى مبتغاه ولو بنسب متفاوتة معتمدين على العمل التجريدي البحت, أي أن الكائن البشري تحول إلى كائن فردي وميكانيكي وجُرد إلى حد بعيد من إنسانيته القائمة على الروحانية والقائمة بدورها على المشاعر والأحاسيس غير المتصلة بشكل مباشر بالغرائز البدائية أي أن ثمة مسافة أمان لتبلور المشاعر في النسيج الطبيعي للذات الإنسانية.
العالم الذي نعيش فيه الآن بات على مرمى منعطفات شبه قسرية, فحتى هؤلاء الذين يقودون ركب الحضارة باتوا تحت مقصلة الهزيمة أمام قوانين الطبيعة ونحن مقبلون على رؤية أشكال مختلفة للعالم.
محمد مجيد حسين – سوريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق