أليس الشعر الجنس التعبيري الأرقى على احتواء كل كينونات الإنسان،على اختلافها..؟
من المعروف أن الشعر يعتبر خلاصة صافية للتجارب الإنسانية،ومصدراً لتدوين معارفهم المختلفة،وتنطبق هذه الحالة على الشعر العربي،فنجد فيه من الحكمة والمعرفة ما يكفي لتثبيت هذه الفكرة،ولهذا كَثُر استخدام مصطلع «الشعر ديوان العرب» من قِبَل النُّقاد.
عُرف لفظ الديوان عند العرب بدلالته المشتركة بين التحليل التسجيل،وقد أحسّ النقاد العرب بالقيمة المعرفية للشعر العربي منذ وقت مبكر جداً.
ولأنّ الشعر ديوان العرب التراثي،ومادة تاريخهم،وسِجِلّ حياتهم،تجد حرص العرب على حفظ أشعارها لتأخذ العبرة منها،وتُوثّق العلاقة بين حاضرها وماضيها،ولتكون مَعلَماً وهادياً للأجيال القادمة،يتعلمون منها الشهامةوالشرف ومكارم الأخلاق..
اعتبر النقّاد الشعر العربي مصدر حكمة وتربية وتهذيب،إذ كان الشاعر يُربّي قومه على الفضيلة، والأخلاق الحميدة،ويزجرهم في الوقت نفسه عن الأفعال الدنيئة؛ فيُقبح البخل ويُشجّع على السخاء،ويُسفّه الجبن ويشدو بالجود،فتشبّ النّفس على الفضيلة،وتسمو في مدارج الرفعة والخير.
والشعراء في ذلك الوقت كانوا يقومون بدور الأساتذة والمُصلحين،يُرشدون الناس بشِعرهم إلى مكارم الأخلاق.وعليه،فإن "الشعراء يحضّون على الأفعال الأفعال الجميلة،وينهون عن الخلائق الذميمة،فسنّوا سبيل المكارم لطلّابهم،ودلّوا بناة المحامد على أبوابها»،ولإرتباط الشعر بالحكمة،فإن الشاعر الذي لا يأتي بالحكمة في شعره لا يُعدّ فحلاً.
وإذا ما قلبنا ملياً التراث الشعري الإنساني في مختلف الثقافات،وجدنا أنه كان على مر العصور يضطلع بمهمة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو تعليمية أو دينية،وهي مهمة تفصح عن نفسها بطريقة مباشرة حيناً،وبطريقة غير مباشرة حيناً آخر.
وإن الفعل الشعري هو عملية اتصالية تفاعلية مركبة،يمثل فيها عنصر الرسالة مكوناً رئيساً لما تتضمنه هذه الرسالة من أفكار وطروحات وقيم،ونظرة للعالم والإنسان،تُحدد جميعها وظيفة الشاعر (الباث) أو منتج القصيدة.
لقد شغل سؤال دور الشعر ووظيفته الشعراء كما النقاد وحتى بعض عامة الناس.ذلك أن هذا السؤال يضع الفعل الشعري أمام جدواه ومقدار أهميته وعمق الحاجات التي يُلبيها ويُشبعها ومضامين الوظيفة المنوطة بعهدته.
في هذا السياق،وجوابا عن سؤال وجهته للشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي (المدير العام لمؤسسة الوجدان الثقافية) حول دور الشعر في تهذيب النفس والسمو بالذات البشرية إلى مراتب عليا حيث الصفاء والتجلي يقول :"الشِّعر صوت القلب،ولسان العاطفة،وترجمان خلجات الوجدان.والشاعر طائر يحلق في كل جوّ ورسّام حاذق تعبِّر ريشته من خلال أحاسيسه فترقص مع الفرح وتبكي مع الحزن فينعكس هذا التأثير على المجتمع خاصة إذا اعتمد الشاعر المعنى الرفيع من خلال حِسِّه المرهف وسبكه في صيغته المناسبة وبذلك يدخل إلى قلب السامع ويؤثر فيه تأثيراً يكاد يرقى به في كثير من الأحيان إلى مستوى مشاعر الشاعر وأحاسيسه.
وميدان الشعر واسع في هذا المجال فكم أضرمت الحربَ أبياتٌ من الشعر،وكم بسطت أكفاً لم تتعود العطاء،وكم أدمت المآقي التي قلَّما تُبكيها الأحزان.
كم حملتنا أبيات من الشعر على أجنحة الخيال وكم هزَّت النفوس وأيقظت الوجدان..!!"
أما الشاعر التونسي القدير جلال باباي،وردا على ذات السؤال يقول :"إن سؤال الشعر ما يزال إشكاليا،لامن حيث الأفق الإشاري الذي يتمتع به، وإتساع مجاله الدلالي ولا نهائية الترميز وحسب ولكن من حيث الوظيفة التأثيرية التي إلتزمت بها الشعرية،ولكن التحولات الحضارية تلزم الشعر اليوم بأن ينصهر في نظرية أشمل وهي نظرية الإتصال وذلك لأجل تحقيق مرامي وغايات إنسانية تجعل الشعر يخترق الشعرية الأرسطية ذات التصورات الميتافيزيقية المتعالية،وتتجاوز البلاغة التقليدية التي إختزلته في إستعارات وتشبيهات ثابتة ومن المؤكد أن الشعر بوصفه حركة حضارية قد رافق حلم الإنسانية في التطور،وتخطي مرحلة الخرافة،والإبتعاد بالذات إلى أرقى مستويات التأمل.
وقد حظي عبر العصور بإهتمام بالغ لأنه كان على الدوام محرك عصب الوجود،والأسئلة الكونية.."
ختاما،لا بدّ من التّنويه إلى أنّّه ما تميّز من تجارب الشّعر الماضية والحاضرة هو ما جاء بتماسّه الحقيقيّ مع الهمّ الإنسانيّ والعربيّ وإرتكز على شعريّة اللغة والأسلوب الفنّيّ المرتبط بالمضمون.
من هنا يمكن أن نتتبّع الصّدق الفنّيّ والمرجعيّة الواقعيّة للنّصّ الأدبيّ والّتي تتكشّف بعد تجربة مختمرة تتأتّى من تذويت في لبّ المبدع بإشتغال متمرّس وذكيّ.
مع أنّ السّائد العام في الشّعر كان الإرتكان إلى النّبرة المستصرخة للمآسي والفواجع بأسلوب تقريري وشعاراتيّ.هذا وأعتقد أنّه حان الأوان لأن نعيد النّظر في كلّ ما نعنيه حين نطلق أحكامنا سواء على النّظريات أو على الموجود.وحان الوقت أيضًا لأن نعيد النّظر في كلّ الثّوابت ولو تلك الّتي تبدو مسلّمة وبديهيّة،بمعنى أنّه علينا إعادة النّظر في المسلّمات الرسميّة المجتمعيّة والمنعكسة في التّجربة الإبداعيّة النّصّيّة.ولا بدّ من الإلتفات إلى أنّه وعلى مرّ العصور،أفرزت المنظومات العامّة في العالم إجمالاً مدارس أدبيّة إتّفقت تارة وتناحرت فيما بينها كثيرًا،منها ما رأت أهمّيّة في المضمون ثم تأتي أهمّيّة الشّكل كالمدرسة الواقعيّة،أو ما نادى به الشّكلانيّون الرّوس من أهمّيّة اللغة والأسلوب،وبالتّالي هذا الملمح العام من رؤى المدارس المختلفة الكلاسيكيّة والحديثة المرتبطة بالمنظومة العامّة من سياسة وإقتصاد وإجتماع ونظام رسميّ،أفرزت ما هو مهمّ وجدير بالوقوف عنده وهو أنّ القوالب مهمَا كانت، من العسير بل المستحيل أن تتماشى ونبض المبدع الحقيقي صاحب الرّؤى الّذي يؤسس لثورة تدفع في اتجاه الخلخلة والمغايرة كما أشار إلى ذلك كثيرون ومن بينهم أدونيس الّذي قال بأنّ الشّعر هو تجسيد نظريّ للثّورة.
ويظل الشعر في الأخير مدرسة الحياة،وهو القادر على تجسير الهوة بين الكثير من مفارقات العالم،وإعطاء إنسانية الإنسان المكانة الراقية والأسمى،فمنذ هوميروس إلى اليوم سيظل الشعر الجنس التعبيري الأرقى على احتواء كل كينونات الإنسان،على اختلافها.
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق