حين توقفني الثورة التونسية المجيدة..مذهولاً مبهوتا أمام حقائقها العارية..!
-تصدير : لأنّ سنابل الشعر خمائر للتمرّد،فإنّه لم يكن غريبا أن تهتف جموع الغاضبين من التونسيين الأحرار،الذين غصّ بهم شارع الثورة بتونس (شارع الحبيب بورقيبة) صبيحة الرابع عشر من كانون ثاني (جانفي) 2011، بأبيات أبي القاسم الشابي "إذا الشعب يوما أراد الحياة...فلا بدّ أن يستجيب القدر"
كيف يمكن للغة أن تنجو من لغْوِها،وهي يحكّ بعضها بعضاً،في محاولة -بائسة-للتعبير عما انطبع وينطبع في الذات من مشاعر وخواطر، يثيرها ويركض أمامها حدث الرّوح التونسي الأعظم: الثورة المجيدة ؟!
وبعيداً عن التجريد الشخصي الذي آلت إليه كلمة "الثورة"،وعن تصدرها قائمة أسهم الخطاب في بورصة المزايدات السياسية، بل بعيداً عمّا تفجره من تداعيات معنوية وحلمية، أجدني أميل إلى العودة إلى التجسيد، إلى القبض على الشيء والمعنى بالحواس المتأتية، قبل أن تقنصهما التسمية، وتحبسهما في أقفاصها الرنانة.
ثمة سؤال أبله يدور في خلدي،قد يصلح ليكون بداية،وإن كانت فجة،للملامسة المقصودة هنا : لماذا يجب على الشعراء أن يكتبوا شعراً أو نثراً،عن الإشراقات الخلابة للثورة التونسية المجيدة!؟
وكأني بالشاعر ما يزال يعتبر نفسه،ويعتبره الآخرون، صوت أمته،وضميرها الحي،الحامل همومها وأفراحها وآلامها،المعدد لمناقبها،الممجد لانتصاراتها،الرائي لقتلاها،الشاتم لأعدائها...
لكن النّاس ينتظرون من الشاعر مثلاً،أن يقول ويكتب !وهو في داخله يحس أنّ مهمته هو، دون غيره! وكأنّه راسخ في وهمه أنّ حركة التاريخ، وسيرورة الواقع،ورياح التغيير مرهونة بما سيسيل به قلمه على لوح الأقدار المكشوف، هذه المرة،لا المحفوظ ! وكأننا ما نزال ننظر إلى صراع وجودنا نظرة شاعرية،تستبدل الحركة والفعل الناتجين عن الدرس والتحليل والرصد الموضوعي،ببلاغات لفظية،لا تعمل على تحويل الدّم إلى حبر فحسب،بل،أيضاً،على تحويل الشهادة إلى رمز،والألم البشري إلى مجاز!
والسؤال: هل تعدّ قصائد الشعراء وكتابات الكتّاب وخطابات الخطباء مشاركة في الثورة التي أشعلها البوعزيزي،واشتعل بها،أم أنّها ليست سوى تعويض مرض عن العجز عن المشاركة الحقيقية فيها؟
هل من شأن هذه الكتابات أن تسهم في تحقيق الديموقراطية وإنقاذ المناطق المهمشة من عقال الفقر وتوفير شروط الأمن والأمان، أم أنّ جدواها تقتصر على تحرير ضمير كاتبها من وطأة الإحساس بعدم النفع، وإراحة ضمائر متلقيه بسبب ما تعانيه من شلل شامل؟!
ما يمكن أن يقال في هذا الشأن ينطبق عليه التشريع الشهير: الحلال بيّن والحرام بيّن. بمعنى أنّ كل وجهة نظر أصبحت واضحة، فهناك جماعة من المتطيّرين الذين تروعهم شبهة الوطن في الأدب،بدعوى أنّ الشأن العام يؤثّر سلباً في الذات،التي هي مملكة الفن وجوهره ومآله الطبيعي.
ما أريد أن أقول ؟
في خضمّ سياقات "الربيع الديمقراطي" المنفلت منذ 2011، وفيما لازالت التجارب السياسية والاجتماعيّة الوليدة تراوح مكانها،تنبري التضاريس الأدبية والمناخات الشعرية متماوجة، فتعتمل داخلها عناصر الإبداع،مشكلة مشهدا حيويا خصيبا،معبّرا بصدق عما تجيش به صدور حَوَتْ لواعجَ الحُب والشوق والتّطلع إلى مستقبل شعري لا تسوسه "المناطق الخضراء" التي طالما كبّلت الحركة الأدبيّة بصفة عامّة.
ولأنّ سنابل الشعر خمائر للتمرّد،فإنّه لم يكن غريبا أن تهتف جموع الغاضبين،الذين غصّ بهم شارع الثورة بتونس (شارع الحبيب بورقيبة) صبيحة الرابع عشر من كانون ثاني (جانفي) 2011، بأبيات أبي القاسم الشابي "إذا الشعب يوما أراد الحياة...فلا بدّ أن يستجيب القدر"، فكانت بذلك أبيات ديوان "إرادة الحياة" القادح الموجب الذي حرّك سواكن الحشود الغاضبة.
مع توسّع انتفاضة الحشود وانتشارها شرقا،عَرجَت القصائد إلى حيث سَكَن الأرواح،فدبّت الحياة من جديد في نصوص الستينات الثورية لصاحبها محمد الماغوط، وتُليَت آيات بيّنات على مسامع أطفال الثورة السوريّة المغدورة،وصَحَت قصيدة "لا تصالح" من غفوتها متثاقلة،فصاح أمل دنقل في ثوّار ميدان التحرير لينبئهم بـ "أقوال جديدة عن حرب البسوس"،سبق أن صادرها عنهم العسكر "الممانع" فلم تحبل قبل مجيء الثورات..
وإذن؟
لم تنفصل إذا،هواجس الشعر والأدب عن معارك المثقف زمن التحوّلات السياسية والاجتماعية المتسارعة، من ذلك السعي الدؤوب للبحث في مربّعات الالتباس بعيدا عن سطوة اليومي العابر،فالمثقف وفق وصف أدونيس هو ذاك "الذي لا يتسلّق جبلا ولا يعتلي منبرا،حتى يعلن ما لديه من الأعالي،باعتباره المرتحل دوما جهة الدّائم"، ولأنّ الشعر نبوءة الشعراء،وظلّ الثورات وقادحها،تظلّ هواجس الشاعر الفنان خلال هذا الهزيع من التغييرات السياسية والاجتماعيّة المتلاحقة،خصوصا بتونس منبع موجات "الربيع الديمقراطي" وقادحها..
ومن هنا،فإن الشعر التونسي لم يكن في يوم من الأيام متجانس الأصوات،متشابه التجارب.إنه هذا التموج والتباين والاختلاف.
لا شك في أن الأحداث السياسية والاجتماعية التي شهدتها تونس،وشمت ذاكرة أدبها وتركت في جسده أثراً لا يمكن محوه أو التهوين من شأنه.غير أن الأدباء اختلفوا في تعاطيهم مع هذه الأحداث اختلافا بينا.أغلبهم عاد إلى الأدب الملتزم ينفخ الروح في جسده الميت متمحلا حججا شتى لتبرير استعادته.ونقصد بالأدب الملتزم الأدب الذي يستخدم اللغة المتعدية تحيل على الخارج النصي،ومنه تستمد شرعيتها وشعريتها.فإذا كان الأغلب الأعم من الكتاب والشعراء ارتدّوا إلى هذا الأدب تحمسا واستئناسا بأشكال جاهزة للتعبير عن احتفائهم بالثورة وتمجيدهم لرموزها،فإن القليل منهم حاول أن يُحول حدث الثورة إلى سؤال فني،إلى هاجس جمالي..
أغلب القصائد التي كتبت عقب هذه الأحداث كانت انفلاتا تلقائيا للمشاعر،وتعبيرا مباشرا عن حماسة طارئة.
لقد نسي شعراؤها،في غمرة حماستهم،أن الشعر ليس الانفعال وإنما هو تحويل الانفعال إلى شكل،أي إلى طريقة في القول مخصوصة،أي إلى كتابة على غير مثال سابق..فالفن مثل الحياة لا يتجلى على هيئة واحدة مرتين،كل تجل يأتي في شكل جديد ويذهب في شكل قديم..
أما أنا..
فأعترف بأنّ الثورة التونسية الخالدة جردتني من أدواتي اللغوية والبلاغية جميعها،ومسحت بممحاة واقعيتها كل ما حفظته من كلمات وتعابير، وما خزنته من أسماء وتشبيهات،وأوقفتني هكذا مذهولاً مبهوتاً،أمام حقائقها العارية..!
وسيبقى السؤال مفتوحاً على آفاق لا آخر لها،تنبعث فيها الثورة كالعنقاء،وهو أيّهما أنجزَ الآخر؟
أيّهما سينجز الآخر،تونس أم ثورتها؟
أم كلا الإثنين،سينجزان تونسياً حرّاً خطوته الأولى على هذه الأرض التونسية الثائرة في وجه الظلم والظلام..؟
ويظل السؤال..عاريا،حافيا..ينخر شفيف الرّوح..
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق