صورتي بين هذا وذاك
سجّلت أحداثا وأقوالا على صفحات التّاريخ ووقّعتها باسمي. كنت على عجل فلم يتسنّ لي أن أقرأ كلّ ما كتبت. لقد عبرت عدّة محطّات كنت خلالها مشغولا بما يجري حولي، والحقيقة لم أكتب بخطّ يدي كلّ ماكتب عنّي. كانت الصّفحات تطوى بسرعة وكنت استرق النّظر إلى بعضها عند مروري، فأدوّن ما استطعت على ما وقعت عليه إحدى عيناي من الصّفحات الشّاغرة، واطّلع بعين أخرى على ما كتب عنّي. ما كتبته بيدي كانت أحاسيسي ومشاعري ولم أكن أزوّقها حتّى أنّي لا أحسن ذلك من جهة ولم يكن الوقت الكافي لأحاول. كنت كمن صوّر أحداثا ومشاهد بآلة تصوير ولم يكن له الوقت الكافي لإضافة بعض اللّمسات لإخفاء السّيّء واظهار الجميل في تلك الصّور. كنت أعرف أنّ المظاهر تلمّع صورة أيّ كان وتجعله مختلفا عمّا عليه هو فعلا، لكنّي بقيت على حالي وعلى هيأتي الّتي عرفت بها ولم أتجمّل عند أخذ الصّور لأنّي لا أحسن الاختباء وراء صورا خدّاعة. سوف أعود إلى صفحات تاريخي في المحطّة الأخيرة وسوف أتفرّغ إلى تصفّحها. ما استطعت أن أقرأه ممّ كتب عنّي ولم أكتبه بيدي ، تراوح بين طعن في الظّهر وتنمّر وتصغير. لا أنكر أنّي قرأت بعض الصّفحات الّتي ذكرتني بخير ولمّعت صورتي. لم أقرأ أسماء الّذين ذكروني بخير ولكنّي متأكّد أنّ هؤلاء هم الّذين ساهموا من بعيد أو من قريب في أن أكون في تلك الصّورة الجميلة الّتي وضعوني فيها. هؤلاء لم تدنّسهم مصالحهم الضّيقة ولم تنطلي عليهم حيل المتخاتلين.. لم يستجيبوا للصّور المنمّقة والمجانبة للحقيقة فأصرّوا على الوقوف إلى جانبي ومناصرتي ولو وصلتهم الأذيّة.. أرادوا أن يجتمعوا حولي ويعترفوا لي بما اجتهدت أن أقدّمه لهم.. هؤلاء لم يحيدوا ولم ينحرفوا عن جذورهم وأصولهم فرأوني على الشّاكلة الّتي يجب أن أكون عليها في الأصل.
أمّا الّذين طعنوني في الظّهر وتنمّروا عليّ وعلى شكلي فقد انحازوا إلى مصالحهم وتحوّلوا إلى حاويات للأكاذيب والبهرجة الخدّاعة الكاذبة وأصّلوا لروايات وسرديات لا تمتّ لي بصلة وباتت أعينهم لا تراني كما يجب أن أكون بل كما خوّلت لهم نفوسهم المخاتلة وكما لقّنتهم الأبواق المتحكّمة في رؤاهم وأذواقهم. هؤلاء جعلوني محطّة لنواياهم ونوايا أسيادهم الّذين أصبحوا يتحكّمون في رقابهم، فصاروا دعاة لهم، ليجعلوا منّي صورة باهتة فقدت ألوانها الطّبيعيّة وليسبغوا عليها ألوانا مصطنعة لا تلبث أن تزول بزوال مصلحتهم. ما كتبته بخطّ يدي،ساهمت فيه أيادي امتدّت لي زمني الشدّة والرّخاء ولم تملّ . كانت أيادي حبّ الانتماء وأيادي التّضحية بالغالي والنّفيس ولم تكن لها مصلحة سوى استفاقة البلد ونضجها. أمّا الّذين كتبوا عنّي وبخطّ أياديهم فقد كانت مصلحتهم والمخاتلة هما الأساس فيما كتبوا وما صوّروا. سانتظر هنا في آخر محطّة وسأفتح كتبي وسيطّلع عليها كلّ من رام السّفر إليّ. ومن هذه الكتب سنعيد الكتابة على مهل لنزيل كلّ الشّوائب...
رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق