الأحد، 29 أكتوبر 2023

كلم الكاتبة مسعودة بوبكر في اللقاء الذي نظمته إذاعة تونس الثقافية عشية أمس بمدينة الثقافة بتنسيق الإعلامي سفيان العرفاوي لتكريم روح فقيد الساحة الإعلامية والثقافية والأدبية الأستاذ محمد بن رجب في أربعينيّته ...

 كلمتي في اللقاء الذي نظمته إذاعة تونس الثقافية عشية أمس بمدينة الثقافة بتنسيق الإعلامي سفيان العرفاوي لتكريم روح فقيد الساحة الإعلامية والثقافية والأدبية الأستاذ محمد بن رجب في أربعينيّته ...

*** *** ***
أُسعِدْتَ حيث أنت يا صديقي سي محمد... في ظلال رحمة الله وعفوه وكريم قبوله... ولتنعم في مأواك بفيض رحمته...
ها نحن نلتقي حول ذكرك واسمك الذي لن تطويهما صحف النسيان في خاطر من عرفك وأحبّك.
ها نحن نلتقي في تحيّة ليست الأخيرة ولكنها الأولى بعد أن فارقت دنيانا... وكنت لا تذر فيها موعدا ثقافيا إلا واكبته، ولا احتفاء بأحد أصدقاء من كلّ جيل، إلا وكنت السبّاقَ لحضوره، وما من حدث طفى على سطح الأحداث وشغل الخواطر إلا وأبنْتَ عن رأيك منه وموقفك ...لا بحسّك الصّحفيّ بل بكلّ وجدانك الذي أورقت فيه حدائق حسّك الإبداعيّ والفنيّ وفروع الثقافة وشؤون الفكر بكلّ ألوانها.
من ستة أشهر كان لي آخرُ لقاء معك في بيتك مع ثلّة من أصدقائك وأحبابك ظللت أحاول جاهدة أن أثبّت الابتسامة على ملامحي و أن أمسك دمعة تصرّ على أن تطفرَ فأمنعها، وأنا أراك وقد تغيّرت. يرسم المرض سطوته على ملامحك وحركتك. أمسك دمعتي وانا أراك لم تتغيّر في حديثك، وذهنك الحاضر وإمساكِك بجوهر النقاش الذي تنامى، وإنصاتِك لما فاضت به قرائح الحاضرين من شعر. لقد جعلت من زيارتنا للاطمئنان على صحّتك لقاءً فكريا وأدبيا بامتياز... تشيع فيه تلك الحرارة والحيوية التي أعادتني إلى صيف 1988، أوّل مرّة التقيت بك فيها مباشرة عن قرب، كنت حينذاك المشرف على الصّفحة الأدبية بجريدتي الصّدى والصّباح حيث دأبت أن أنشر - بإشرافك – تجاربي الأولى في القصّة. وكنت المؤسّس لمهرجان الأدباء الشبّان المنعقد في شهر جويلية بدار الثقافة الطيب المهيري بحيّ الزّهور. ولمست حضورك وإشرافك على ذلك المهرجان الحدث، وإصرارك على أن يقام كلّ سنة رغم ما ندرك وما لا ندرك ما كنت تلقى من صعوبات بكلّ الأنواع، كان ذلك درسا في الثّبات من أجل الهدف، والمضي قدما رغم أنف العراقيل. لمست فيك سندا لا ينتظر جزاء ولا شكورا لخطى بداياتنا في عالم الكتابة والإبداع . كان الأستاذ المغفور له سي مصطفى الحناشي مدير دار الثقافة حي الزهور بحفاوته وابتسامته المعهودة يحاول جهده أن تمرّ أيّام المهرجان في ظروف مرضيّة. ظلّ مهرجان الأدباء الشبّان يستأثر باهتمام كلّ من عشق الكتابة وخاضها بتولّه. تظاهرة من الوزن الثقيل إن صحّ التعبير، منه برزت جلّ الأسماء التي اشتدّ عودها، ثمّ باتت معروفة. أثرى أغلبها المدونة التونسية والعربية، شعرا وسردا ونقدا.. كنّا نعيش أيّام المهرجان كما لو كان عيدا نلتقي فيه أصدقاء جمعتنا صحيفة الصدى تحديدا. يفدون من شمال البلاد وجنوبها، ومن وسطها وسواحلها. لقد استطعتَ أن تجعلنا جيلا بعد جيل نشعر أننا ننتمي إلى أسرة واحدة، تحديدا ما عرفت من جيلي، في الثمانينات. على امتداد سنوات جمعنا المهرجان فيما تتالى من مواسمه باعتبارنا متسابقين ثمّ مشاركين في لجان التحكيم ومتابعين مشجعين. وكما يحدث في كل الأسر حلّق من كبر واشتد عوده بأجنحته في أفق الإبداع والتحق بها من الولوعين الجدد برؤى جديدة ومختلفة.
كنت ربّان السّفينة وقائد المركبة بلا منازع بحضورك الغامر محبّة وحفاوة واعتناء، وبعينك التي تتابع كلّ شاردة وواردة. فلا تكتفي بنشر النّصوص في الأركان الأدبيّة عبر صحيفة الصدى وصحيفة الصباح آنذاك، بل توفّر لنا فرص اللقاء بأسماء في النّقد أذكر منها الأستاذ المرحوم المنجي الشّملي والمرحوم أبو زيّان السّعيدي والمرحوم عبد الله صولة. وأذكر كذلك ملاحظات الأستاذ مصطفى الكيلاني التي كنت تنشر فحواها في الصّفحة الأدبيّة.
كنتَ لي بصفة خاصّة، اليد التي تشدّ على قلمي وتحثّه على الثبات فيما يهدّده من ظروف الوظيفة، وانشغالي بأسرتي وضيق الوقت. أشكو إليك تارة هذا الوضع فتشحنني بقولك" أنتِ لها لا إفراط ولا تفريط لا في رسالتك الأسرية ولا في عالمك الإبداعي ولا تحمّلي نفسك ما لا طاقة لها به، إذ عشق الفنّ وممارسته معادلة صعبة لا يقدر عليها إلا الولوع الصّادق وأنت من هذا الصنف." ظللت مواكبا لخطاي تمدني بعناوين كتب في النّقد وتشير عليّ بالاطّلاع على مؤّلفات ظهرت حينها، ومن الأهميّة بمكان. ثمّ وأنا أنشر تجاربي الأولى، وأنا أكتب البطاقات الأسبوعية على أعمدة الصحف المحلية والعربية، لم تعدم كلمة تشجيع أو ملاحظة لتدارك فكرة ما، دون أن تشعرني، وأنت المعلّم، بتلك الوصاية الثقيلة، بل بنديّة المحاور. كنت حاضرا في مجالس احتفائية بتجربتي المتواضعة، وشاهدا على مرحلة، منتظرا منّي المزيد وبنفس جديد.
ظلّ خيط الودّ موصولا وكذلك الاستئناس بحضورك في اللقاءات الثقافية الفكرية. عمادٌ في المشهد الثقافي الإبداعي، وعلم من أعلام الصحافة وصديق متواضع نصوح حفيّ بأصحاب الأقلام . حين التحقت بلجنة التحكيم في مسابقة الكومار الذهبي للرواية العربية كان ذلك برعايتك، وتعلّمت من حضورك منسّقا صلب اللجنة. كنت صاحب مقترح أن تضيف تأمينات الكومار مسابقة للرواية باللغة العربية في الدورة الثانية من تأسيسها. إذ بعثت في البداية بصفتها مسابقة للرواية باللغة الفرنسية فقط. فسعيت لإقناع منظّميها أن تشمل الرواية العربية أيضا. وتحقّق ذلك، ولم تنقطع عن مواكبة هذه المسابقة المحليّة المهمة للرواية، فضلا عمّا يجدّ في السّاحة الثقافيّة، حتّى وأنت تلتحق بالمنظمّة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو).
لئن استطعتَ أنت متابعة الكثير منّا حتّى بلغت نصوصنا المطابع، وعُرضت في رفوف المكتبات والمعارض المحليّة والعربيّة، فلم ننجح نحن أصحابك وأحبابك في أن نقنعك بجمع ونشر ما يضجّ به الخاطر وما تخزنه الذاكرة لديك لما فيه من أهميّة الشّمول حتّى لا يذوب في مجرى النسيان.. فضلا عمّا تكتبت من افتتاحيّات، أذكر أنّك أخبرتني بولعك بالقصة القصيرة وأن لك فيها تجاربَ وأيضا في الشّعر، وانّك نشرت بعض تلك النّصوص في مجلة الفكر ومنابر ثقافية أخرى، لكنّك لم تفكّر بضمّها في كتاب.، لا النّصوص الإبداعية ولا تلك المتفرّقة في الشّأن العام والفنّيّ والسّياسي. أذكر أنّي سألتك "لم لا تنتقي منها للنّشر في كتاب بل في كتب وأنت ذو القلم السيّال!" وكانت إجابتك حاسمة:" لا... لا رغبة لديّ الآن" ظللت دائما تبدي عدم رغبتك في جمع ما دوّنت وما في الذاكرة والوجدان والفكر... تحمل المصباح عاليا كي تنير درب الذين شاهدتهم يكبرون أمام عينك على امتداد سنوات.
إن أنسى لا أنسى يوم تكريمي من قبل منتدى الفكر التنويريّ التونسي، الدي يشرف عليه أ. محمد المي، فقد أبيت إلا أن تحضر رغم معاناتك للمرض، وأنت ترسم ابتسامتك السخيّة، مثلما عهدتك من سنوات، غير أنّها ابتسامة لم تنجح في أن تحجب الاصفرار على ملامحك المتعبة. وددت أن أجلس إليك بعد حصّة المداخلات غير أنّك سريعا ما غادرت وحزّ ذلك في نفسي.
بدأنا نقرأ لك من مدّة - وأنت تصارع المرض- نصوصا إبداعيّة على غير ما عهدنا منك من آراء حول ما يحدث هنا وهناك، كتابة طفرت فيها الكثير من الأسئلة الوجودية وتأمّلات في الموت والحياة والمرض.. حتّى حصل المقدّر ، ففقدنا فيك الصّديق العزيز والوفيّ الحفيّ المحبّ الذي بات مثيله اليوم قليلا...شخص آمن بالعطاء ورسالة أن يأخذ بيد من آمن بالثقافة وجورها وعشق الفنّ بأنواعه والكتابة تحديدا. فقدنا ذلك الرّجل الذي يؤسّس ويؤطّر ويقدّم دون انتظار مقابل. كما فقدنا ذاكرة ثقافية زاخرة تنطفئ ولم تدوّن - ربّما أكون مخطئة أمام إمكانية وجود أثر مكتوب عند الأسرة الكريمة.
ها أنّي فرد من تلك الأسرة الكبيرة التي رعيت من سنوات... أقف اليوم لتحية روحك في إجلال ووفاء. وفي قلبي ممّا تعلّمت منك ما أنا حريصة عليه أبديه فعلا دون القول.
تقبّل الله روحك بالقبول الحسن، وأبدلك دارا خيرا من دارك، وأهلا خيرا من أهلك ولْتَهْمِ مُزن الرحمة على قبرك وذكرك، من قلوب الذين خلّفت من نسلك، وممن خلفت من أحبابك وبينهم من تبنّيت بالرّوح والمودة والاهتمام وليجعل الرحمان لك عنده المقام الحسن.
مسعودة بوبكر
28 أكتوبر 2023


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق