قراءة الناقد مراد ساسي في ديواني " كلمات تولد من ضلع حواء"..
" كل قصيدة تضيء هي انتصار على الموت " مراد ساسي.
فإذا دخلنا عالم الشاعرة لطيفة الشامخي من خلال مجموعتها الشعرية " كلمات تولد من ضلع حواء "، أدركنا و منذ العتبة الأولى: العنوان، أننا أمام شاعرة تحذق السفر في الروح فتختزل فن المسافات بين الأنا و الحياة بين فتنة الخيال و عمق و جمالية الصورة و الفاعلية الفنية التي تمتلكها و يتجلّى ذلك من خلال تجربتها الشعرية بمختلف تجلياتها النصية، و باعتباري ذاتا قارئة، متلقيا ناقدا أن أدخل مناخات إرهاصات الوعي بأهمية القول الشعري لديها، خاصة و أننا إذا دقّقنا في قصائدها و نصوصها وجدناها حمّالة لرؤيتين فريدتين، تلك المزاوجة بين القصيدة الحداثية و المعمار العتيق للجملة الشعرية و الذي بدوره كسته برؤيا حداثية جديدة و مختلفة، وهو ما خوّل لها بناء رؤيتها على المفارقة و المغايرة تماما مع هو سائد، و هنا أستدلّ ببعض الأبيات من قصيد " حنين ":
" أشتاق إلى زمن
يأتي فيه ساعي البريد
تحت المطر
يجول بحيّنا العتيق...."
ففي هذه النصوص الشعرية المختلفة في المقاصد و الأغراض و حتى طريقة التركيب و المعمار، ربما الشاعرة تريد أن تقدم أقانيم تجربة شعرية مختلفة و متميّزة، لجغرافية جمالية ظلّت سكنا بعيدا عن النص المستهلك أو النمطي أو حتى ذاك الذي ظلّت تكتبه لزمن بعيد، و أزعم أنه حين تختمر التجربة تكابر و تتمرّد و تتجلّى بعض آثامها المحببة أو في بعض إشراقاتها ألفي سطوة عشقها المتمنّع، و قصيدة " ظلال الصمت"
" نامت عيون الليل
سكنت أهازيجه
و القمر على وسائد الغيمات
غرق في الحلْم...."
أو قصيدة " الزهايمر "
" عندما تصبح ذكرياتنا
حفنة سراب
و الذاكرة دخان
و نجلس
جلسة العدم..."
فالشاعرة مسكونة بعالمها المتشظّي، و المدهش و المربك و المركب، و في النص عبور لمسارات شعرية تجاوز لحظة المكاشفة الشعرية الآنية المحبّبة لتمتدّ إلى اللانهاية أي تفتيت الزمان و المكان و الاحتفاء بالزمن الشعري تخييلا و إتقان لفن المسافة أو السفر في مدارات التخييل و المجاز المهلك أحيانا بين الذات و الآتي، و الحياة كحلم يقتحم ذاكرتك في عز الظهيرة فيتوقّف الزمن: في قصيدة " قف يا زمن"
" قف يا زمن
و أجب على سؤال القصيدة..."
إلى جانب أنها تؤكد أن الإبتكار الشعري إن هو إلا لغة داخل اللغة و لعبة لا تنتهي لأن القصيد ليس وعدا يمكن الإمساك به متى أردنا بل هو انفلات و خلاص، من " ذاكرة الغياب "
" لا تسل.. أيا حلمي الجامح
كيف ضاع تحت قدمي الطريق
و غاب الرصيف...."
و في هذا النص غور عميق في الكينونة و في المدى الأنطولوجي، بما هو تحسس لسكن الجسد و حقيقته، و هنا إشارة إلى أن القصيدة بشكلها الحسي تجذبنا إليها و لا تطلق سراحنا، و لكنها تأخذ برؤيتنا إلى خارجها، تمر بنا عبر ذاتها إلى خلفية النص إلى اللقطة الحقيقية التي وقعت بها كأن تقول في قصيدى "رثاء مهدي ابن أخي "
" افتقكَ النور
افتقدكَ الرفاق
أينكَ عندما تجمّعوا؟
............." في كل ركن خلّفتَ ذكرى
مع كل صديق
تركتَ حديثا لم يكتمل".....
أو نص " حلم أزرق "
" نامت و الوسادة
تعانق الحُلْم
حُلْم أزرق يهدهد مناماتها
في ليل الشتاء
يكتبها على صفحات الذاكرة"
و حين تطوقها حيرة مجلجلة، من كل ما حولها المكان و الزمان و حتى بيدر الكلام و ريح الكلمات في صدرها و لا تلويحة نصف شراع للسفن الغافية في مرافئ العمر السفن المسافرة بنا أبدا..
تتجه الشاعرة بالشعر إلى حديقتها السرية، حيث العالم استعارة مركّبة، لا تحدّد ملامح عوالمها، لأن الشعر نفي و هدم، و تشكّل لعالم الشاعرة المركّب، عالم سقوط اليقينيات، حيث تمسي الحقيقة عبور إلى اللاحقيقة، حيث المنتهى و اللانهائي، و من ثمّة ينكشف لنا ذاك الصراع الذي طورا يؤرق الشاعرة حتى يمزّق كيانها و أحيانا نراها تروم التصالح مع عمق متخيلتها و مع مجازاتها، قصيدة " سمفونية الماء و الضوء"
" فانطلقي.. أيتها الأنثى
من داخلي
و خذي حفنة الماء و الضوء
و اصنعي الحياة "
فتميّزت نصوصها بجريان و سلاسة الأسلوب و نفث الروح في المعاني و بعث إيقاعات موسيقية داخلية لكأنّها سوناتات آتية من السماء تتماوج في صعود و هبوط مع طول نفس و تماسك بين الجمل الشعرية بلغة صافية شفافة لا غموض فيها، لغة هادئة سليمة و مباشرة كما أرادتها، فهي ترفع القداسة.. عن نظم القصيد .. كحياة ثانية يتحقق الوجود في أحراشها و دواخلها و تختزل أوجاع الإنسان و غربته و تنبجس آفاق الإنسانية .. كرحابة الوجود .. و توقي الهجر يدتها، و هذا ما يجعلها حرّة و كثيرة، لتجابه تأويلات بأشكال و مكونات ذات لحظات خصوصية جد متعدّدة، لكونها قصيدة متقدمة بقوة و سعة و عطاء، قصيدة " اعتراف "
" سجّل عنّي..
يا رجلا.. أُدلي إليه اليوم باعترافي
بكل أمانة العشاق..
أنا.. امرأة خائنة
ما كنتُ لكَ وفيّة
و لا كنتُ تقيّة
في كل ليلة
كنتُ أختلي بدفتري و أقلامي
أسامرُ الكلمات
أنام في مخدع الحروف
و قبل الفجر
أغتسلُ بالحبر
أصلّي في محراب الشعر
سجّل يا رجلا
أنّكَ ما كنتَ إلا ظلا
و كان الشعر كلَّ رجالاتي"
و إذا سلمنا بعد قراءة متأنية في النص الشعري للشاعرة لطيفة الشامخي ظ، أدركنا أن الحرف بالنسبة لها تماما كما سرب خيال يحلق في الأعالي، فهو لحظة الانفلات من عقال الزمن، هو التعبير الحقيقي عن الفرح الوجع مواجع الإنسان في زمن ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة، حيث كل ما تخفر به الحياة من حب و إرادة و سلام و تسامح هو ميراث الإنسانية ملك يمين البشرية،ظ.
لأنها تؤمن بأن الشعر هو رحلة في عوالم جديدة.. مفاتيحها الإيغال في الإكتشاف و تطويع الرؤية خيالا مجنحا لغة و صورة حد الإدهاش و خلخلة المسلمات لدى الناس لأن الشاعر أُمر أن يكلّم الناس.. فقد وهبت الشاعرة للقصيد صوتا فرديا سريا من الأعماق كنشيد للإنسانية، فاختزل النص جملة الانفعالات لحظات المكاشفة فلحظة الميلاد العظيمة التي لا يعلمها إلا الشاعر.
و في قراءتي للمحجب منها لرصده و التعبير عنه، فاحترفت تغريدة جمعت بين الأضداد.. الانفعال.. الانكسار.. الغربة.. الموت.. الحياة.. الفرح.. الصفاء.. الكدر.. و بهذا ألغت الطمأنينة و الدّعة و انتحت الحيرة و الجرأة و الريبة و الشك.. و إيقاظ الألم فيها إذ تقول:
" من أين أبدأ رحلة العودة
و أنا عالقة
بين بياض الكفن و ظل الرهبة
و الموت يركب صهوة الوقت
أيا غربة الروح
كيف أملأ هذا الفرغ؟
كيف أسُدُّ ثقوب الذاكرة؟
و تواصل
" استيقظي يا امرأة الحلم بداخلي
و اعبري مسافة الخوف و الضجر و الأرق
ثوري على كوابيسك الخانقة"
و ختاما أقول تخبرنا الشاعرة لطيفة الشامخي من خلال مجموعتها " كلمات تولد من ضلع حواء " أن الشعر أكثر من مدوّنة لحياة البشرية كما يراه الأولون و اللاحقون، هو الجمال و الخيال و اللغة الآتية مت حدائق الله، من طين الدهشة سلالة الغواية حرائق الروح و عنفوان الخيال.. و تلك لعمري أهم عناصر القصيدة الشعرية، و الشعر الباقي هو الشعر الذي يحمل في طياته أكثر المضامين الإنسانية روعة و جمالا، هو جرعة الحب و الحياة لدى الإنسان بل أكثر هو بسمة الله في القلوب.
و الشاعر كالساحر غوي يهرّب الأرواح في صناديق الفتنة و الغواية.. لذلك نراه إذ نراه يُحلِم الحياة.. فالق الدهشة و مخلخل المسلمات لدى القارئ، المتلقي، وهو شاهد على عصره و مؤثر في.
الناقد: مراد ساسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق