السبت، 11 يناير 2025

قراءة تحليلية من قبل الأستاذة حميدة بن ساسي للمجموعة القصصيّة للكاتبة المتميزة الأستاذة فردوس مدبوح

 قراءة تحليلية من قبل الأستاذة حميدة بن ساسي للمجموعة القصصيّة للكاتبة المتميزة الأستاذة Ferdaous Madhbouh ابنة بني خيار


جعلتني الكاتبة من خلال مجموعتها القصصيّة (الطّوق)أرحل إلى فلسطين حيث كانت الحرب تحصد أرواح كلّ الفلسطينيين  حتّى الأطفال والنّساء ومن سلم من القصف اضطرّ إلى النّزوح أو الهجرة وأمست حياته خواء لا بهجة فيها ولا رواء ترين عليها الوحشة والاضطراب...كانت المشاهد الّتي صوّرتها القاصّة تعبّر عن  مأساة الفلسطينيّ الّذي تحوّل إلى لاجئ مشرّد يواجه الضّياع أو شهيد يقدّم نفسه قربانا للأرض بأسلوب شيّق فيه مراوحة بين الماضي والحاضر ...كان الانسياب واقعيّا للأحداث تربط فيه السّبب بالنّتيجة وقد راقني ما كان فيه من توازن وديناميكيّة بين اللّوعة والحنين؛ رباطة الجأش والخوف...نقلت الكاتبة مشاعر شخصيّاتها بحرفيّة إلى القارئ فيصغي إليها بقلبه وعقله وكيانه...بطعم الحنظل تنسج كلماتها لتعبّر عمّا يساور المرأة المعنّفة من هواجس ومخاوف  ولتختار الحلّ الأمثل لبطلتها وهو الطّلاق والتّخلّص من الزّوج العنيف لكن الواقع قد يكون حملا ثقيلا على الضّحيّة...انتقلت بين السّطور فاعتراني ذهول شديد ،ها قد وصلت العارضات البلاستيكيّة الجديدة لتربك العارضة القديمة الّتي لم ترض عريها وتسلّط البائعة وكان التّجوال بين مصطلحات تجاريّة بحتة:أروع الموديلات،الموضة،الواجهة البلوريّة،الأسعار الملتهبة...غاية في الإبداع والتّنسيق...انسابت حروفها وحرّرت ذاك الطّفل من الرّمال المتحرّكة الّتي تجذبه إلى المجهول بسبب الخلافات المتكرّرة بين أمّه وأبيه وانشغالهما عنه...تسلّط الكاتبة تارة الأضواء على مشاعر دفينة قد يتحوّل فيها المرء إلى دمية يحرّكها القدر وطورا على أحلام ورديّة تحضن شخصيّاتها لكنّ الأمواج الهادرة تغرقها وتدفنها كما غرقت الأمّ المرفوقة بأطفالها وهي تحاول أن تغادر الوطن على مركب هجرة سرّيّة...انتقلت بنظرات زائغة كما عبّرت القاصّة لأستطلع ما يحصل على مواقع التّواصل الاجتماعي فجذبني الحوار الّذي دار بين المراهقة والشّخصيّة المرموقة وكأنّها تحذّر المراهقات من قبول صداقة الغرباء و الانبهار بكلامهم المعسول...ومن هنا حثّت القارئ على طرح الأسئلة على نفسه  :هل تشكّل مواقع التّواصل الاجتماعي اليوم خطرا على تربية النّاشئة ؟...ولعلّه من المفيد أن نشير إلى توظيف الوصف في السّرد فكان الإبداع الرّوائي دون تكلّف كأن تورد الكاتبة هذه العبارات الوصفيّة:

صوّرت له الهواجس أعينا واسعة ترمقه...

طال مسيري ونسائم الخريف الباردة يجتثّ نداها خمائل الوحشة النّابتة في أعماقي...

كانت تجارب كلّ الشّخصيّات ترسم كلّ تفاصيل الواقع  المرير بخيباته وانزلاقاته في انتظار انبلاج فجر جديد...بين شهقات وضحكات أرتمي بين غمار الحكايات وكأنّ أحداثها تتراقص بأخيلة مبدعة ألهمها إدراكها هشاشة الإرث الثّقافي وجرأتها التّي تجبرك على حبّ الانفلات من طوق المعتقدات البالية ...والزّعم أنّ الكاتبة قد حرصت على التّأثير في القارئ   فتراني أبكي لرؤية ذاك الطّفل الّذي وجده أبوه منكبّا على وجهه في البحر وقد اصطحبه للنّزهة في الميناء، حاولت تخيّل المشهد الّذي حاكته القاصّة  ببراعة ومهارة سرديّة  ،فالمتلقّي يحشر في الحكايات المتنوّعة فينجذب حينا إلى معسول الكلام من ذاك الجامعيّ المتصابي الّذي يلقي صنّارته منتظرا المرأة الّتي ستبتلع الطّعم وهو يعلم أنّه مريض فيحمل نفسه إلى العيادة النّفسيّة وحينا آخر يشفق على إحدى الشّخصيّات أو يتعجّب من أمرها وهذا بفضل أسلوب السّرد السّلس الّذي يجعلني أجدّف في المتاهة مع هذا النّوع من الشّخصيّات الدّراميّة...بين الواقع والمجاز ،بين الحلم والخيال رغبات تتحرّر من القيود ...تقبل العبارات  وعلى كاهلها تلال من الهموم تدفع القارئ إلى التّأمّل والوقوف،إذ أصبح يرى بوضوح كلّ خفايا الواقع...

 ارتقت الكاتبة برموزها لتنشئ دلالات أخرى مميّزة لذلك فليس غريبا أنت تنتهي الأقاصيص بنهايات تطفح ألما أو أملا..رغم مدار السّرد لم يغب الحلم والتّفاؤل وظهرت الطّرافة في قصّة التّاج عندما التقى المتسوّل برجل مريض يطلب منه التّبرّع له بكليته مقابل منحه سكنا ومالا فرفض ذلك قائلا :

أموال الدّنيا يا سيّدي لا تساوي سلامة جسدي، ألتحف السّماء،أزدرد التّراب ولا أفرّط في سلامتي...

ولعلّ هذا هو الّذي جعل معظم الشخصيّات في مجموعة الطّوق تغتالها الأحزان بسبب الظّروف القاسية  الّتي تعيشها،ولعلّ القاصّة تعمّدت ذلك لتخلق مواجهة بين الحلم والواقع لتكون زوبعة اللّيلة الأخيرة إذ اندفع الزوج نحو زوجته فاطمة ليلجمها،ضغط على رقبتها،واصل الضّغط...إنّها ثنائيّة الحياة والموت،الخير والشّرّ...كانت الدّراما مهيمنة في بعض الأقصوصات فكيف قتلت فاطمة على يد زوجها السّكّير؟وكيف عانت سوء معاملة ربّات البيوت ؟

لقد تقاطعت الأصوات لتؤلّف الكاتبة سنفونيّة تناغمت مع المحن ، فلا شكّ أنّ الانعتاق أمر صعب لكن هذا يستدعي المحاولة إذ أمسك أحد أبطال القصص بجناح طائر قريب منه حتّى لا يتخلّف عن السّرب...ولا شكّ أنّ القاصّة أنشأت دروبا من النّضالات اقتضتها بلاغة الأسلوب والاستعارات المميّزة والنّقد البنّاء لمظاهر اجتماعيّة سالبة للحريّات الفرديّة...هل ثمّة حدود للمعاناة الإنسانية ؟وكأنّ الكاتبة تحرّض  على اتّخاذ موقف ما فالهروب ليس حلاّ...

عنوان المجموعة القصصيّة (الطّوق) يحيل على مدلول لغويّ وهو كلّ شيء مستدير يحيط بالعنق،ومدلول رمزيّ يوحي بالتفاف الهموم حول الفرد إلى درجة الشّعور بالغربة والاختناق...وصورة الغلاف تحشر المرأة في الحكايةفتصبح سندا سرديّا تشارك في الأحداث وقد تشترك هي أيضا في الأدوار وتروي بضمير المتكلّم :أنصتّ إلى كلماته المتعثّرة على شفاهه متحرّرة من طوق جبروته،سألتحق بمنظّمة تأوي النّساء المعنّفات وتقتصّ لهنّ من أشباه الرّجال...

ما عاد الطّوق موجوداوإنّما انزاح ،وتكسّر في نهاية القصّة ...

استمتعت كثيرا بقراءة هذه المجموعة القصصيّة الرّائعة وأدعوكم أيّها القرّاء لمطالعتها...

          


             الكاتبة حميدة بن ساسي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق