حين تخترق الكلمة سجوف الصمت والرداءة..وتتحدى لهيب الجحيم (جمالية المبنى والمعنى في قصيدة الشاعرة الفلسطينية المغتربة عزيزة بشير -مَنْ في السّماء سألتُ نُصرَةَ غزّةٍ-)
-هرم الناس وكانوا يرضعون/عندما قال المغني عائدون/يا فلسطين ومازال المغني يتغني/وملايين اللحون/في فضاء الجوح تغني/واليتامى من يتامى يولَدون..-أحمد مطر-
-"تفاح جرحكِ،هل سيثمر للغزاة الفاتحين؟/يتفقد الأغراب جرحكِ:«قد تموتْ في الفجر غزة،قد تموتْ»وتعود في الفجر الحزينْ/صيحات حبكِ والحياة/أقوى وأعلى،يا صباح الخير،أختَ المعجزاتْ"(معين بسيسو)
أن يكون الشاعر(ة) في خندق الحرية،هذا قدر إنساني واختيار جمالي وأخلاقي،فالشعراء هم قادة ثورات وفتوحات على تخوم الخيال وفي مساحات الحركة الإنسانية لأجل المستقبل.وقصيدة الشاعر(ة) صوت نقي من أصوات الحرية.
وهنا أسأل : هل ثمة فرق جوهري بين قصيدة يكتبها شاعر(ة) لم يبرح مقيماً في بيته الأول،بيت طفولته حيث مسقط الرأس،بكل ما يذخر به من ثراء،ومن صور وظلالها الأليفة،رغم ما يعتمل في نفس الشاعر(ة) مما هو مبهم ويتصل بغوامض الشعور في عالم حميم محروس بوجود ناس المكان،وقصيدة يكتبها شاعر(ة) يخوض في سفر مديد مع الأمكنة والغرباء،ومغامرة مع الشعر مفتوحة على مفاجآت الطريق،وعلى صور الأمكنة الغريبة،والعوالم المختلفة،والأرصفة المتحركة صوب المجهول؟
عرف العرب في فلسطين مأساة الإنسان،وعنفوان التحدي،وعلى أرضها سوف يتقرر
المستقبل العربي،وفيها يواجه العرب قضيتهم المصيرية الكبرى.
وإنه لمن الضرورة أن نبني اندفاعنا النضالي المعاصر،على أساس الوعي الصحيح
والحقائق الثابتة،إذا أردنا لمسيرتنا الحالية أن تكون انطلاقة تاريخية لا مجرد َهّبة عابرة..
فالوقائع التاريخية تثبت بما لا يقبل الشك،وعي الشعب العربي الفلسطيني المبكر
بأخطار العدو الإسرائيلي،والإستعمار البريطاني،وتؤكد بشكل قاطع أن هذا الشعب قد ناضل
نضالا متواصلا،مريرا لمقاومة هذه الأخطار.وقد اتخذت المقاومة العربية الفلسطينية للإحتلال الغاشم أشكالا عديدة وتبنت مختلف الأساليب،والوسائل الكفاحية،من الإحتجاج إلى المقاطعة فالإضراب،فالعصيان المدني،فالثورة المسلحة.
ولم تخل هذه الوسائل الكفاحية من الأدب والشعر،فالشاعر الفلسطيني لا ينتمي إلى
القضية الفلسطينية كأي شاعر آخر يناصر الحق والعدل،وإنما هو في واقع الأمر ينتمي إلى
ذاته باعتباره هو القضية،لذلك لم تكن المقاومة حيث أطلقت هذه الصفة على الشعراء
الفلسطينيين هي قذف جنود الإحتلال بالحجارة الشعرية من هجاء،وفضح،وتحريض،بل
كانت ذاتها بكل ما تحمله من تراب ومقاومة،فالشعر في فلسطين لم يقف عن القيام
بدوره في المقاومة،مستخدما الوسائل التي يستطيع تجنيدها كافة،ليجعل منها سلاجا للوقوف
في وجه العدو الغاشم.
ومن هنا يجوز القول-في تقديري-أن الشعر من الفنون التي رافقت الإنسان منذ فجر تاريخه، وما يزال،وخاصة في لحظات الاضطهاد والاحتلال وسلبِ الحريات،حيث يحضر الشعر إلى جانبِ السلاحِ لتحقيق فعل المقاومة،هذا الفعل الذي يستلزمُ الكلمةَ كما يستلزمُ الرصاصة.
وقد عبر الأدب عن ضمير الشعب،وعن معاناته ومأساته،ورفضه للذل والإهانة،فها هي الشاعرة الفلسطينية المغتربة ترسم بحبر الروح جراح غزة ونزيفها الدامي :
نُصرةً لِغزّةَ،لِرَفح،وَسائرِ..بلادِ العرب والمُسلمين!..
مَنْ في السّماء سألتُ نُصرَةَ غزّةٍ
ورَجَوْتُهُ للمَظلُومينَ..نَصيرا
يا ربِّ حَقّقْ سُؤلَنا وتَوَلّهُمْ
واهْلِكْ عَدوّاً ،غازِياً..شِرِّيرا
واحفظْ (رفَحْ)يا ربِّ مِنْ هجَماتِهِ
فالكُلُّ فيهَا،مُشرَّداً..محْصورا
بلَغَ الزُّبى سيْلٌ لنا في مِحْنَةٍ
فدَمُ الضّحايَا على الرُّكامِ..بُحورا
(و النِّتْنُ) نِتنٌ ،مُجرِمٌ وَمُشوَّهٌ
قتْلُ العِبادِ بِشرْعِهِ..مأجورا
حَرْقُ البلادِ بِقاطنيها لُعْبةٌ
يلهو بها،(بايْدِنْ) معاهُ..مُجيرا
لا شيءَ يَعْني أن تُرحَّلَ غزّةٌ
وَيُبادَ شعبُ،وَتُسْتَحلَّ..دُهورا
كلٌّ يهونُ لأجْلِ مصلَحَةٍ له
قتْلُ الجميعِ : رهينةً..وأسيرا
هذي (رفحْ )ثاني مطايا كيْدِهمْ
فيها يعيدُ مهابةً..وَحُضورا
ويقولُ : إنّ النّصْرَ فيهَا مُحتَّمٌ
رغمَ الإبادةِ ،نستفيدُ..كثيرا
فَجَلاءُ مليونيْنِ عنهَا..مُهيّأٌ
نصْرٌ على القسّامِ يَغْدُو..جديرا
لا شيء يَعْني أن يُبادُوا كلُّهُم
أو يَفرِشوا رملَ الصّحارِي..حَصيرا
كلٌّ يُبادُ لأجلِ عيْنِ (مُنَتِّنٍ )
كيْ لا يؤولَ إلى السّجونِ..مَصيرا!
يا أُمّةَ المِليارِ ماذا تنظُري؟
ما بعدَ غزّةَ،فانظُريهِ..مُغير..!
عزيزة بشير
إذا كان عمر الرصاصة محكوما بسرعة وصولِها إلى الهدف،فإن الكلمة/القصيدة تستمرُّ انطلاقتُها دون حدود زمنية،تؤثر وتُخلد،وتواصل تذكير الغاصبِ بعُقمِه الإنسانيّ،وتذكير المُضطَهَدِ بِعُمْقِه الإنسانيّ..
ومن هنا،فإن القصيدة تشكل أفقا للمقاومة والتحرر والوقوف في وجه الظلم،فالقضية الفلسطينية قبل أن نكون قضية سياسية،هي قضية أخلاقية،مما يجعلها تمثل للشعراء أفقا لإستحضار القيم الإنسانية النبيلة.
إن الشعر العربي هو سيد الفنون وأكثرها تفاعلاً مع القضايا الإنسانية لما يمتلك من خصائص موسيقية وصور جاذبة للمتلقي.وقضية فلسطين كانت وما تزال محوراً مهماً من محاور الشعر العربي،وأغلب الشعراء العرب كتبوا عن فلسطين ولفلسطين.وما يحدث في غزة اليوم من قتل وتدمير ممنهجين،هو حافز كبير على صياغة أجمل القصائد التي كتبها شعراء لا يملكون سوى سلاح الكلمة،ليعبّروا به عن تضامنهم مع قضية العرب المحورية،فكانت تلك القصائد دموعاً ممزوجة بالدم،وما هز وجدان هؤلاء الشعراء كان له الأثر الكبير على الوجدان الشعري للشاعرة الفلسطينية الفذة عزيزة بشير،فكتبت قصيدتها النازفة جرحا غائرا في الضمير العربي وانتصارا مطلقا لغزة أرض العزة.
ولأن لكلٍّ من اسمه نصيباً كما تقول العرب،فقد دأبت غزة ولو بكلفة باهظة،على مقاومة غزاتها الطامعين عبر الزمن،تماماً كما كان حالها مع الأوبئة والكوارث الطبيعية،في حين كان أهلها لشدة تمرسهم بالآلام وأهوال الحروب،يزدادون صلابة ومنعة وتشبثاً بأهداب الحياة.
وإذن؟
لم يكن غريباً إذا،أن تحظى غزة منذ القدم باهتمام الشعراء،أو أن تكون مصدر إلهامهم ومحط أنظارهم ومثار حنينهم،كما كان حال الإمام الشافعي،الذي وُلد فيها وقضى في ربوعها ردحاً من الزمن،حتى إذا غادرها متنقلاً بين الأمصار،واستبد به الشوق إلى مرابعها،قال فيها:
وإني لمشتاقٌ إلى أرض غزةٍ وإن خانني بعد التفرّق كتماني
سقى الله أرضاً لو ظفرتُ بترْبها كحَلتُ به من شدة الشوق أجفاني
أما في الأزمنة الحالية،حيث بات الحديث عن جمال المدينة وألق بحرها وسواحلها نوعاً من الترف،فقد اختارت غزة أن تنتصر لنفسها ولهويتها القومية والإنسانية،وأن تدفع مرة أخرى الأعباء الباهظة لتقاطع الجغرافيا مع التاريخ على أرض مأهولة بالزلازل.
ولأنها اختارت بشكل طوعي أن تقبل ما شاءته لها أقدارها من أدوار،فقد أطلقت إثر سقوط فلسطين،أولى صيحات التمرد والعصيان،وقدمت في سبيل الحرية أغزر قرابين الدم،وأكثر التضحيات جسامة وسخاء.كما استطاع هذا الشريط الساحلي الضيق الذي تشغله المدينة والذي يعدّ أحد الأماكن الأكثر اكتظاظاً على الأرض،أن يلفت أنظار العالم بصمود أهله الأسطوري،ويصبح المجسد الأمثل لروح فلسطين العصية على الانكسار،وهو ما مكّنه في الوقت ذاته من أن يشحذ بالاستعارات والحدوس والصور الملحمية المعبرة مخيلات الشعراء(قصيدة الشاعرة الفلسطينية عزيزة بشير-نموذجا)
أعادتني محرقة غزة الراهنة إلى شعر المقاومة في مناطق عديدة من العالم،خصوصًا الشعر الفرنسي،وبالذات بول إيلوار،ومع ذلك ظل ما يحدث اليوم أقرب إلى الدم وروائح الموت من كل التجارب المقاومة في العالم،وبالذات لأن مفهومي لشعر المقاومة يتجاوز فكرة التحريض، وما يتصل بها من غايات "تثويرية"،طامحًا إلى التعبير عن حالة إنسانية عنوانها الأبرز والأكثر عمقًا في الروح الإبادة كفعل تدميري للإنسان بالمفهوم والاحتمال الشمولي.
محنة غزة التي تتجاوز أية كارثة عرفتها البشرية شكلت شعريًا استنفارًا هائلًا لمخزون الذاكرة،ذاكرة المكان،أو بدقة أكثر الأمكنة وذاكرة البشر،بما هم معادل إيجابي للحياة.هنا بالذات بات الأمر يتعلق بما يتجاوز فكرة المقاومة بمعناها البديهي والبسيط كفعل إرادة من أجل الدفاع عن الحاضر والمستقبل،إلى اجتراح نصوص-تستشرف-المصير الإنساني برمته،والمقاومة هنا باتت تعني إزاحة الكارثة كواقع حقيقي يطال الأشياء كلها،بما فيها المآلات الكبرى،كالموت والحب مثلًا.
وفي الرهان على الشعر،ذهبت الشاعرة الفلسطينية عزيزة بشير إلى خيارها الأبرز،وأعني تقديم قصيدة تنتمي إلى المشهد،بما فيه من نسغ درامي يقدم الرؤية الشعرية في إطار سردية حجر الأساس فيها هو الصورة،التشكيلية والدرامية معًا،والتي تنجح في إطار علاقتها بما قبلها وما بعدها من الصور في تكوين مشهد شعري ينجح في بث الروح القلقة والمتوثبة معًا في النص لتحقيق أثر يتكئ على فكرة أساس هي أن يتمكن القارئ من استعادة هذا المشهد في مخيلته،أي أن يكون القارئ بدوره مشاركًا في القصيدة من خلال التلقي الفاعل..
هكذا يذهب الشعر إلى المحرقة،يدخل أتونها يحترق بها ومعها،ولعله يؤجج نار القهر والتعجب من أمة "المليار" الهاجعة في كهوف التاريح،" يا أُمّةَ المِليارِ ماذا تنظُري؟/ما بعدَ غزّةَ،فانظُريهِ..مُغير..!
على سبيل الخاتمة : قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت إن تجربة غزة بآلامها وجراحاتها النازفة وبكل ما تحمله من أشكال ومعاني التراجيديا تدفع الشعر للخروج بكامل لياقته وحضوره إلى كتابة نفسه على نحو مختلف يتأسس في أتون المحرقة،ويجتهد للتعبير عنها من خلال التوحد مع الألم،ودفعه نحو أفق فني جديد يجانب الحماسات الصاخبة والهتافات العالية،كي ينصت أكثر للعميق في الروح،المستتر والخافت،والذي يحاور الدم،ويرسم صورة الجراح في الذات البشرية بجمال.
صبرا أيتها الشاعرة الفلسطينية الفذة عزيزة بشير
"صبرًا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة"
سينتصب الحقّ شامخا،يخرّ الباطل صريعا..وينبلج الصبح على فلسطين.
لست أحلم..لكنه الإيمان الأكثر دقة في لحظات التاريخ السوداء من حسابات الآفاقين..وحفاة الضمير..
"وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ(الصف-13)"
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق