قراءة نصية في قصّة "بائعة الورد " للكاتب والقاص التونسي منير الجابري
منير الجابري: كاتب وقاص مخلص لفنه ورسالته، متوحد مع الطبقة الكادحة يكتب بصدق وحرارة، مختزلا نفسه في الخير والحب الإنساني وإحقاق الحق ، كاتب يترجم مشاعره المرهفة وأفكاره بحروف زاهية بسيطة، بعناية فائقة ، بلغة حسية وروحية عذبة ، مما يضفي على نصه مسحة من البهاء والروعة ، وهذا ما نلمسه في قصة " بائعة الورد " للقاص منير الجابري ،التي سنحاول إلقاء الضوء عليها في هذه المقالة المتواضعة .
القصة تؤشر لوجود ظالم ومظلوم في مجتمعاتنا المحلية، كما تشير بشكل خفي للزيف الاجتماعي ،وقصور وفشل في تطوير منظومة قيمنا الإنسانية، فالمحور الرئيس لقصة " بائعة الورد " عامل استطاع أن يرتقي من صانع بناء بسيط ، الي مقاول كبير ينافس أكبر المقاولين . ....
( إستطاع أن يرتقي من صانع بناء الي مقاول ينافس أعتي المقاولين على الصفقات. أسس شركة مختصة في البناء وعمره لم يتجاوز الثلاثين، وشيئا فشيئا أصبح له مكانة بين رجال الأعمال ).
هذا المقاول تنكر لأصله وجذوره وأهله ، ومنبته الطبقي الكادح ،حين تنكر لحقوق العامل البسيط ،الذي سقط من الطابق الثالث أثناء العمل ، نتيجة الإهمال وعدم أخذ احتياطات السلامة العامة ، وعامله ببيروقراطية وتهميش واضحين ، حين قال: "لا عليك سنشتري صمته" حيث أشار الكاتب لذلك، بسرد بسيط شفاف ( زار" المقاول " في صباح ذلك اليوم العمارة التي هو بصدد بنائها ؛ ما إن جلس أقبل عليه الشاف( رئيس العمال ) وخاطبه - لقد جد أثناء غيابك حدث هام! ما هو؟- لقد سقط أحد العملة من الطابق الثالث!! لا عليك سنشتري صمته٠٠٠لقد عدت للتو من أوروبا مرهقا!! (
نلاحظ هنا كيف تضطهد الطبقة المتنفذة الطبقة الفقيرة ، وتتنكر لأبسط حقوق الكادحين ، وتتنكر لماضيها ، وتركز على مصالحها الخاصة ،وتتنصل من تحمل مسؤوليتها الإنسانية ،حين يلجأ رب العمل ، لطرد مشرف العمل الشخصية المخلصة المتفانية ، الذي تعرض للخذلان والخيانة من رب العمل ، دون مسوغ قانوني وإنساني .
( لم يول المقاول سقوط العامل أي اهتمام؛ بل ما لفت نظره هو تجاوز موعد تسليم العمارة لأكثر من أسبوعين صب جام غضبه تجاه الشاف؛ فهو يعتقد أنه إما عن تهاون أو عن جهل؛ لم يلتزم بالموعد المحدد لتسليم العمارة ٠مما جعل الشركة تدفع خطايا ، التجأ المقاول إلى تلفيق التهم للشاف الذي أمضى معه أكثر من عشر سنوات وهو في خدمته ). وبفطنة ينقلنا القاص لجبهة أخرى، اكثر سخونة وأشد احتداماً ومعاناة ، جبهة "المعاناة النسوية" في مجتمع ذكوري ، الجبهة التي تتعرض للخذلان والتهميش ، فهذه مآلات الواقع البأس ، الذي يخطط له أرباب العمل، لاضطهاد الطبقة الفقيرة بالفعل والقول ،" كما حدث مع المقاول في قصتنا بائعة الورد "، وتأسيس شبكات الإتجار بالبشر ، وأغلب ضحايا هذه الشبكات ، من الفتيات والسيدات المطلقات والأرامل،،إن تلك الشبكات تقوم على إيقاع الفتيات في حقل الدعارة أو خادعهن بوجود فرص عمل محترمة لهن. .. هذا ما أشار له القاص بإشارات ذكية .
( وقد عرف المقاول بمغامراته العاطفية؛ التي كان يحكي عنها بكل فخر واعتزاز ٠كان يميل الي المراهقات ويغريهن بالمال ويسعى حتى يتمكن من مضاجعتهن ٠٠٠
فهو يقوم بدور الممثل البارع حتى يصل إلى مكامن القوة والضعف لديهن، وإذا وجد صدا منيعا من أي واحدة منهن فهو يكيد لها كيدا) .
ولأن المقاول المنعم الذي يتقلب في ترف الدنيا ، يعاني من خواء فكري وأرق وجداني ، وانحطاط أخلاقي ، يحاول الإيقاع ( ببائعة الورد ) الشابة الجميلة والانيقة ،التي اكتشفها بالصدفة أثناء وجوده في مقهى على الشاطئ، رغبة في الوصول لجسدها الفتي اللين ، وحين صدته ولم تنحنٍ لإغرائه المالية ، ولم يستطع التلاعب بها عاطفياً ، لم يستسلم ولجأ لطرق آخري ملتوية ، بمساعدة نادلة تعمل في احدى مقهى الكورنيش ، ونجح في تفننه الشيطاني في التودد لبائعة الورد وإغوائها واستغلالها عاطفياً وجسدياً, بدافع التسلية والجنس ، وبعد أن نال مبتغاه ، لم يعد إليها ثانية .
( كان لجمالها واناقتها وهي تضع مكياجا خفيفا مفعول السحر لدي المقاول؛ حاول التقرب منها مرارا وتكرارا ٠الاانها صدته ولم تنحن لإغرآته ٠٠٠
لكنه لم يستسلم بسهولة وسلط عليها فتاة تعمل نادلة بمقهى الكورنيش ومنحها المال بسخاء ،كي توقع بائعة الورد في شباكه؛ وما ان نال منها مبتغاه لم يعد إليها ثانية ).
تعقيب : لا يدرك هذا المقاول المنحرف ، حجم الألم الذي سببه للعاملين معه ، ولا حجم الألم والمعاناة لبائعة الورد حين قتل احلامها ، وخاصة حين تكتشف أنه غرر بها وأن كل المشاعر التي كان يُظهرها لها، ما هي إلا كذبة كبيرة !!!! تنم عن ثفافة مهترئة ، ثقافة الاستعلاء على بسطاء الناس ، التي تؤشر على خلل اجتماعي وتربوي وثقافي فالرجولة لا تقاس بعدد المغامرات النسائية .
لغة القصّة: سجّل القاص منير الجايري فكرته بلغة بسيطة عاديّة ، لغة تواصليّة تفاعليّة، قَصِّها بإسلوب فنّيّ تتطلبه القصّة القصيرة واقترب النّصّ بذلك من لغة عامة الناس ،من غير إسفاف ولا إضرار باللّغة، لّغة فنيّة بتطلبها العمل في القصّة القصيرة جدّا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق