جدلية الإقرار وفن الاختيار
قراءة قصيدة "اجعل خياري جنَتي ودياري “ للشاعر التونسي المتميز الطاهر مشّي
د/آمال بوحرب
لم تكن قراءتي في قصيدة الشاعر حقيقة من قبيل المصادفة أو لغرض الكتابة في جريدة أو مجلة لان ذلك لم يكن ليعنيني بقدر ما تعنيني القراءة ذاتها خاصة أن تطور الأدب والنقد أدى إلى تحول ومعرفة الوظيفية الطبيعية للشعر كما يؤيده " صلاح فضل " في كتابه أشكال التخييل « إن تطو ارت الأدب والنقد قد أسفرت عن تحولات واضحة في الطبيعة الوظيفية الاجتماعية للشعر بعد انتهاء من مراحل الوجدان الذاتي تتشكل وفق المتغيرات الحضارة والفن والوعي الإنساني».
القصيدة:
اجَعَلْ خِيَارِي جنّتِي وَدِياري!
***********************
كم في الغياب تعانقتْ أوتاري
كلّٰ مُدجَّجُ، حامِلاً أَسْرَارِي
والكُلُّ موجِعُ، ذِكرَياتُ أليمةٌ
كم تُهتُ فيها، تعْتَلي أسْوَارِي
قلّبْتُ صَفْحاتي وَجُبْتُ رَسَائِلي
علّي أراكِ بِنَظمِي في أشعاري
أبْحث ْ بِها بيْنَ السّطورِ لعلّني
ألقى بِطيْفِك، ما رَسَمْتُ بِناري
فالشّوقُ زادَ ونارُ وَجدِكِ حارِقٌ
تَاهَتْ دُرُوبِي مَا بَلَغْتُ مَسَارِي
كيْفَ السَّبِيل؛ لتستبينَ خَرِيطتي
وَأَرَى مَكانِي والحُشُود جِواري؟
قد تُهتُ بعدكِ واستبدّ بيَ الهوى
ربَي أجرني، غابَ عنّي نَهَارِي
رَبّي أتوبُ إليْكَ فاقبلْ توْبَتي
إنّي خلَعتُ بِتَوبَتي أوْزاري
دَعْني أراها؛ كم أضيقُ بِغُربَتي
واجَعَلْ خِيَارِي جنّني وَدِياري!
طاهر مشّي
اعتمدت قراءتنا للقصيدة على محورين أساسيين هما السردية والوصف فضلا عن كشفها على رؤيته الشعرية في أبعادها الأربعة الإنسان والقصيدة والتشكيل الفني والذاتي والموضوعي وأفصحت عن مظاهر الحزن ومشقة الحياة في تجليات مظهر واحد هو (رحلة العمر).
وتتخذ هذهِ القصيدة من الإنسان المحور الأساسي لها وبداية هو عنوان القصيدة "اجعل ْ خياري جنتي ودياري"
هذه الرمزية في العنوان تختصر مفاصل القصيدة من جدلية وحرية الاختيار حيث كانت المفردات المنسابة بابا للحديث عن السردية فيها لعل تلك الحدود التي أقامها النقاد في المقارنة بين الأجناس الأدبية المختلفة حالت حتى وقت قريب دون تداخلها فكل جنس لهُ خصائصه الجمالية وكل جنس له لغته ومنهجه الخاصان اللذان لا يشاركه فيها جنس آخر.
ولقد دخلت القصيدة الحديثة أبواباً جديدة في سبيل توكيد حداثتها ويُعد السرد والحوار من أكثر التقنيات حضوراً في القصيدة المعاصرة .
وعندما نتكلم عن لغة القصيدة ونعني باللغة الشعرية ما تعارف عليه النقاد من استخدام الشاعر لمكونات القصيدة اللفظية ذات التداعيات والدلالات الإيحائية وهو ما اتفقوا عليه بالمدلولات الانفعالية للكلمة ويعنينا في هذا المقام اللغة الشعرية بأنها الإطار العام الشعري للقصيدة والتي يقصد بها مكونات العمل الشعري من ألفاظ وصور وخيال وعاطفة وموسيقى ومواقف بشرية فقد استعمل الشاعر الفعل في حالاته بين الماضي والامر والمضارع ليثبت حضور الفعل في جوهره اللامتناهي وذلك للذكرى الأليمة فلا تتوقف عبر الزمن فهي حالة موازية لما تعنيه الافعال في البعد الجوهري لها،
فهي لغة بعيدة عن لغة التعتيم والتهويم في سرف الوهم واللاوعي ، تلك اللغة التي تلفها الضبابية القائمة والرمزية المبهمة فلغته ناصعة واضحة لا غموض فيها وتعبر عن مضامينه بأسلوب أقرب فيه إلى التصريح المليح منه إلى التلميح إذ أن الشاعر ذو منهج تعبيري سلس وقاموسه الشعري لا يحتاج إلى كد ذهني وبحث في مغاور اللغة
لا أصرح بهذا، إنما أغبط شاعرنا على الرؤى الواضحة والألفاظ المعبرة بذاتها وقد لمّح الشاعر بنفسه عن ميله لهذه السهولة
بقوله:
والكُلُّ موجِعُ ذِكرَياتُ أليمةٌ
كم تُهتُ فيها تعْتَلي أسْوَارِي
قلّبْتُ صَفْحاتي وَجُبْتُ رَسَائِلي
علّي أراكِ بِنَظمِي في أشعاري
إن الغربة التي يعاني منها الشاعر رغم أنه يعيش بين أهله وصحبه ويتمتع بصحبتهم في ربوع وطنه ما هي الا حتمية من حتميات الغربة النفسية التي أفرزتها جراحات الأمة العربية على امتداد مسافاتها وتباين أقطارها فهي غربة الحرف والكلمة واللغة والمصير المشترك كما يقول شاعرنا أنها غربة الضياع والتمزق الذي ينتابنا اليوم
يقول الشاعر :
دَعْني أراها كم أضيقُ بِغُربَتي
واجَعَلْ خِيَارِي جنّني وَدِياري!
القصيدة عمودية على البحر الكامل، فشاعرنا لا يزال منبهرا بما تحمله القصيدة التقليدية من موسيقى خارجية ممثلة في بحرها الشعري وقافيتها الفخمة وألفاظها الخطابية المتوهجة فيغوص بنا في عالم الإبداع وفن القوافي لنعيش اللحظة الفارقة ونمضي في طيات الكلمات إلى حد التيه
يقول الشاعر:
فالشّوقُ زادَ ونارُ وَجدِكِ حارِقٌ
تَاهَتْ دُرُوبِي مَا بَلَغْتُ مَسَارِي
ولا زلنا نبحث مع شاعرنا عن حدود الخرائط يحدونا بكلماته فتطرب آذاننا وترقص معه أفئدتنا طربا وثورة ابتهاج لما في هذه القصائد من ومضات مشرقة تأسر القلوب في أفكارها وصورها ولغتها وثورة لأنه يفجر في دواخلنا كوامن الجراح التي ما تلبث أن تلتئم حتى تتفتق من جديد
يقول الشاعر:
كيْفَ السَّبِيل لتستبينَ خَرِيطتي
وَأَرَى مَكانِي والحُشُود جِواري؟
هذا السؤال يحمل نداء وصرخة مدوية في عمق العشق يوجه الشاعر نداءً يحاول به إيقاظ الضمائر التي شاخت وهرمت وانطفأت فيها جذوة العزيمة والنخوة والإرادة فهو يدعو إلى ثورة مدمرة تحرك في نفوسنا الحمأة "المدججة " بسلاح الحرف والكلمة وتقوى فينا التمرد على كل ما يعيق مسيرة الأمة
استمع إليه يقول :
كم في الغياب تعانقتْ أوتاري
كلّٰ مُدجَّجُ حامِلاً أَسْرَارِي
وعليه فقد تميزت لغة شاعرنا بالشفافية والوضوح
هذا يعني أن الشاعر ذو منهج تعبيري سلس،
وإن كان لفعل الأمر دلالات متعددة باعتبارات شتى فهو يدل على طلب امتثال فعل المأمور به لتكما يدل على مجال زمني لفعل الأمر وهو من جهة أخرى له دلالات باعتبار الوحدة والكثرة، وهنا الشاعر يطلب من الله لله بتقديم شكوى المتيم لباب التوبة من شدة الوجد والعشق وهنا تكمن روح القصيدة في روح الشاعر
فالكتابة فن ولا يجيده الا رسام ماهر يعلوه الشوق ويصدع الألم في التلاعب بالحرف تلاعبا يجعلنا ننسى معنى الالم والغربة فتذوب في العشق والتيه كما قال الشاعر:
أبْحث ْ بِها بيْنَ السّطورِ لعلّني
ألقى بِطيْفِك، ما رَسَمْتُ بِناري
وحتى تكون البداية بيد الشاعر اذ استعمل (رسمت) وهنا بدا من خلال الفعل الماضي الوقع والاقرار به عن طريق أخذ القرار في أن يعلن انه منذ البداية جعل الحرف ريشة يرسم بها الغزل بكل الالوان .
قصيدة متميزة تصالح النفس مع النفس وتزرع النور في حلك الليالي
بالتوفيق المستمر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق