بُؤْرَةُ الصَّفَاء.
أنَا رَجُلٌ مِنْ بَوَادِيَ كِسْرَى..فَقِيرٌ، بَسِيطٌ،
رَمَتْنِي الحَيَاةُ بِأَثْقَالِهْا.
وَقَارَعْتُ لَيْلِي الطّوِيلَ بِسَيْفِ الحُرُوفِ أُهَذِّبُ مِنْهَا أَوْحَالَهَا،
رَغِيفِي بِجهْدِي أُغَمِّسُهُ بِجَبِينِي، فَيَصْفُو نَعِيمًا بَهِيَّ الصَّدَى...
وَلاَ أمْلِكُ مِنْ حَيَاتِي سِوَى صَيْحَةٍ مِنْ ضَمِيرٍ أَهُشُّ بِهَا الغَدْرَ إِنْ رَجَّهَا..
طُمُوحِي بَسِيطٌ، وَحُلْمِي بَسِيطٌ، يُلَمْلِمُهُ الشِّعْرُ إِنْ كَلَّمَتْنِي الجِرَاحْ..
وَإِنْ غَازَلَتْنِي الحَيَاةُ بِرَشْفِ المُحَيَّا أَهُدُّ الرَّدَى، أَرُجُّ النُّوَاحْ..
رَضَعْتُ حَلِيبَ الصَّفَاءِ مِنَ النَّخْلَةِ الوَاعِدَة،
وَضَوْءُ التَّسَامِي تَوَلاَّنِي مِنْ نَجْمَةٍ شَارِدَة.
وَقَعْقَعَةُ الثَّلْجِ عِنْدَ الجِبَالِ إِذَا كُنْتُ فِي التَّلَّةِ أمُدُّ البَصَرْ،
تُدَوِّي بِلُبِّ عِظَامِي وُتُنْبِؤُنِي بِقُدُومِ المَطَرْ.
وَزَيْتُونُنَا فِي سُفُوحِ الرَّوَابِي إذَا مَا شَتَا،
يَنِزُّ قَنَادِيلَ زَيْتٍ تُضِيءُ المُنَى.
تَوَسَّدْتُ صَخْرًا كَثِيرًا أُزِيحُ بِهِ رِحْلَةً مِنْ عَذَابِ الطَّرِيق،
وَطَارَدْتُ كُلَّ الطُّيُورِ أُرِيدُهَا طُعْمًا أَنَا وَالرَّفِيق،
وَ"دَشْرَتِي" عِنْدَ أَعَالِي التِّلاَلِ،
لَهَا فِي عُيُونِي - عَلَى اليُبْسِ - كُلَّ الجَمَال،
صَبَاحُهَا مِسْكٌ تُعَطِّرُهُ وَرْدَتِي بِأَرِيجِ الكَلاَم،
مَساؤُهَا شَوْقٌ لِلَيْلِ السُّرَى صُحْبَة الوَالدِ لِفَجْر الغَمَام.
وَأَبْنَاءُ عَمِّي لَهُمْ فِي دِمَائِي حَفِيفَ التَّجَلِّي،
رَعَيْنَا الصَّقِيعَ مَعًا، بَكَيْنَا مَعًا، فَرحْنَا مَعًا، سَحَقْنَا الأَسَى بِالتَّمَنِّي.
أَمُدُّ لَهُمْ حَبْلَ شَوْقِي إِلَى الصَّخْرَةِ العَاليَة وَمَوْقِدِ ذَاكَ المَسَاءْ،
يُجَاوِبُنِي القَنْصُ للطَّيْرِ فِي كُلِّ حِينٍ. وَلَيْل الشِّوَاء..
مَيَادِينُ أُنْسِي، فِخَاخٌ أُمَلِّسُهَا مِنْ حَدِيدِ الحَصَادِ،
أَنَا وابنُ عَمِّي، نَدُكُّ بِهَا الطَّيْرَ بَعْدَ السُّهَادِ،
نَجُوبُ البَرَارِيَ شِبْرًا بِشِبْرٍ نُفَتِّشُ مَرْقَدَ أَرْنَبٍ رَائِقَة.
نُبَاغِتُهَا بِالصَّدَى..فَتَقْفِزُ قَفْزًا....فَنَرْمِيهَا بِالضَّرْبَةِ المَارِقَة.
مَيَادِينُ أُنْسِيَ، كُلُّ حَصَادٍ: شَعِيرٍ وَقَمْحٍ، وَجَارُوشَةٍ رَاقِصَة.
وَجَوْلاتُ رَعْيٍ تَجُوبُ الفِجَاجَ بِأُنْسِ الحَدِيثِ، وَشَوْقِ اللِّقَاءِ وَبِالنَّظْرَةِ الفَاحِصَة.
وَلِي فِي لَظَى الصَّيْفِ، فِي الوَادِي سَبْحٌ لَذِيذْ.
وَجَائِزَةُ الحَلْوَى لِي مِنْ أَبِي كَطَعْمِ النَّبِيذْ.
وَفَرْحَتِي تَزْدَادُ عُمْقًا إِذَا مَا وُعِدْتُ بِنَيْلِ السَّفَرْ،
إِلَى المَقْطَعِ فِي الطَّرِيقِ البَعِيدِ لِجَلْبِ الحَجَرْ.
يَقُولُ أَبِي مِلْءَ شِدْقَيْهِ: هَيّا استَعِدْ،
سَنَجْلِبُ صَخْرًا كَثِيرًا جَمِيلاً...سَأُعْطِيكَ أَجْرًا، فَكُنْ كَالأَسَدْ.
سَنَبْنِيَ صَرْحًا جَدِيدًا يَأْوِيكَ قَرَّ الشِّتَاءِ وَيَحْمِيكَ لَفْحَ الصَّرَدْ".
وَأُمِّي تَكُونُ عَلَى فََرْحَةٍ غَضَّةٍ، وَقَدْ صَارَ ابْنُهَا هُوَ السَّنَدْ،
وَصَارَ يَمُدُّ لَهَا العَوْنَ إِنْ كَدَّهَا الجَهْدُ بَعْدَ الكَمَدْ.
أَعُودُ إِلَى "دَشْرَتِي" الآنَ بَعْدَ مُرُورِ السِّنِينْ،
وَبَعْدَ رَحِيلِ الأُسُودِ وَمَا خَلَّفُوا مِنْ أَنِينْ.
فَأُلْفِي بَقَايَا الصِّغَرْ،
أُنَادِيهَا شَوْقًا وَقَدْ نُقِشَتْ فَوْقَ جِسْمِ الحَجَرْ.
يَقُولُ أَبِي وَعُكَّازُهُ فِي سَفَرْ: "لَقَدْ كَانَ مِنْهَا عَظِيمُ أَثَرْ،
هُوَ الآنَ أَنْتَ بِلَحْمِكَ تَزْهُو كَسَيْفِ القَدَرْ".
صالح سعيد / تونس الخضراء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق