السبت، 24 يوليو 2021

شموخ.. فوق زخّات الألم بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 شموخ.. فوق زخّات الألم

الإهداء: إلى روح الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد..ذاك الذي أوقعته القافلة سهوا عنه،سهوا عنّا..والتهم الحياة قبل أن يلتهمه الموت ذات مساء دامع..
“إذا أردتَ ألا تخشى الوت،فإنّ عليك ألاّ تكفّ عن التفكير فيه” (snénèque)
..المطر يغسل الفضاء،وحبّاته تسقط على الأرض فتتناثر أشبه بخيالات تولد وتندثر،وعلى المدى تنطرح الأضواء فوق المستشفى العسكري الأكثر بياضا من العدم،تذكّر أنّ ثمّة بشرا يعيشون أيضا..
لقد اكتشف الطبيب الصّارم-المرضَ الخبيث-الذي توغّل في رئة-محمد الصغير أولاد أحمد-وبدأ ينخرها بشراهة فجّة،مما جعله يحدّد موته برتابة إدارية مرعبة!..
هذا الإكتشاف المفجع أجبرنا على الإستعداد لرثائة بحبر الروح ودم القصيدة..
أنا الآن،مثقل الذهن من رؤياه مسجى،إلا أنّ رحيله لم يكن يثير من الألم بي،أكثر مما يثير سخريتي من الحياة،فإنتهاء الإنسان إلى مثل هذا المصير لا سيما بعد أكثر من نصف قرن قضاه يعطي الحياةَ حيويّته ونضارة صباه،هو ضرب من العبثيّة التي لم أستسغ كنهها بما فيه الكفاية..لقد غدا-أولاد أحمد-في عداد الميت،وانخرطنا في البكاء على رحيله بدموع تحزّ شغاف القلب..
هكذا بعد أكثر من نصف قرن أعطى فيه الحياة أضعاف ما أخذه،يحيله الموت إلى جسد هامد في طريقه إلى نهر الأبدية حيث دموع بني البشر أجمعين..
إنّه ليس معقولا أن يموت الشاعر الفذ أولاد أحمد،كما أنّه ليس معقولا أيضا أن يعيشَ على تخوم الألم،ومع ذلك فلا شموخه فوق زخّات العذاب أمهل رحيله،ولا أنا قبلت بأن يموت،رفضان في تناقض محتدم،إلا أنّهما محتدمان بصورة قدرية..وذلك هو جوهر أحزاني..
صرخت بملء الفم والعقل والقلب والدّم:”لا يا أيها الشاعر العظيم لن ننساك..لن يطويك الزّمن..لن يباعد بيننا..الزّمن لن يطوي أمثالك ممن خبروا شعاب اللغة،وتضاريس القصيد..ليس من السّهل أن تتوارى خلف التخوم،ولا أن تضيع..ولا أن تموت..ولا أن..
كان حزنا صعب المراس يلتحف بأضلاعي..
دخلت الغرفة فرأيتة مسجى،وقد تميّع مرضا،وتحلّقت حوله-قصائدة العذبة-،انقبض قلبي بسرعة وأسرعت إلى جانبه،كانت شفتاه تتحركان وعيناه مغمضتين بعنت وألم،وهيكله هامدا ساكن النبض..اقترب منّي شاعر وهمس في أذني بصوت مكتوم:”لا تحزن يا محمد..الحزن ماء غريب لا يغسل ما يجب غسله إلا في لحظات هاربة”..”
لا يا صديقي..إنني حزين..الحزن حالة من الهمود كالقهوة التي تفور وتفور،ثم تتراجع وتستقر في قاع الركوة.أنا قهوة فارت وهمدت..جسد يتلوّى في فيض الألم..أنا كتلة من ألم..ترى يا صديقي،هل سيطوي الموت جناحيه الأسودين على شاعرنا ورفيق دربنا..؟ إلتفت صوب أولاد أحمد،فرأيته يعضّ شفته السفلى بعنف وقد تيبّست يده تحت جنبه الأيمن..وتهادت الأوجاع على صفحة وجهه غائمة كأطياف مراكب الصّيد عند الغسق..
حين الظلمة تبرك على الإمتداد على حيّ نابت في مكان ما من الشمال..تتحرّك كائنات بشرية وسط الفراغ،وتتململ بعض الأصوات التي تحملها الأحزان وتطوّح بها بين أركان البيت..
في تلك اللحظات المنفلتة من عقال الزمن..يتوجّع السكون ويصاب الصّمت النبيل بجراح يفقد على إثرها اللّيل سرّه..ثم يتعالى الأنين ويتعاظم الألم فترتجف قلوب أعتى الرجال..وتبكي-كلمات-*بصمت جليل:
“أبي مات..
لا لم يمت..سيظل حيّا في الذاكرة..سيظل نبراسا يضيء دربي البعيد..وأعاهد نفسي أن يظل ينبض خلف شغاف القلب”
وسط المستشفى ينفلت فراغ ممل،صمت غير محدود،وفي هذا الفراغ الجائع المحموم تصنع الرّيح ارتعاشاتها في المدى صوتا يحاكي نحيب الأرامل..اتجهت صوب الشاعر المستعد للرحيل،ذاهل اللب والخطى ينهشني في داخلي خراب كاسح،ويتناهى إلى سمعي أنين قاهر ما فتئ يتضاءل كالرّجع البعيد..اقتربت منه فألفيته مسجّى وقد اعتصره الضمور واعترى جفونه ذبول وحاقت بعينيه أورام وغشيت وجهه سحابة من عذاب كافر..
أمعنت النظر فيه فوجدته يتلوى كنبات زاحف والكلمات تندغم في حلقه..وشيئا فشيئا ارتخى جفناه كستارة تسدَل وتشابكت يداه وهما تضغطان على الألم في صدره،ثم بدأ يتكوّم ويرتخي،وبين التكوّم والإرتخاء تضيء عيناه وهما تبحثان عن وجهي لينظر تلك النظرة التي ستورثني الحزن الأبدي..
لم يعد بوسع-الشاعر-أن يحرّك أطرافه،كما لم يعد بوسع الطبيب أن يرفع رأسه عنه،وفي تلك الساعة العصيبة كاد الزمن أن يتوقّف أو هكذا خيّل إليَّ..وفي تلك الساعة أيضا شعرت بالدّمع يطفر من عينيَّ،وبألم هائل يجتاحني ويعتصرني..والتفت فجأة نحوه فرأيت عينيه تتثبتان على وجهي،ورأيت جفنيه ينحسران إلى أقصى محجريهما كأنهما تريدان أن تتركا لعينيه أوسع رؤية ممكنة في آخر لحظة بالحياة،وراح بريق عينيه يذبل كذبالة سراج منطفئ،أو كحجر مرو أملس مبلّل يوضع تحت شمس حامية تبخّر الشمس رطوبته شيئا فشيئا..
الآن بدأ خدر البرودة يحكم قبضته على جسده..وببطء شديد راح يغطّ في موت عميق..
عندما تبهت الأيّام،وتنطفئ في عين النّهار إبتسامة حاولت كثيرا أن أغذيها بدمي،يتعالى صراخ من هنا،أو نحيب من هناك،وتتوالد حول الأحداق أحزان كثيرة وعابثة الشعور،تذكّر أنّ الإنتهاء قد اقترن بكل شيء.
عند المساء مات أولاد أحمد،بكل حتمية..مات وهو يتوسّد قصيدته الأخيرة:
”أودع السابق واللاحق../أودع السافل والشاهق../أودع الأسباب والنتائج../أودع الطرق والمناهج../أودع الأيائل واليرقات../أودع الأجنة والأفراد والجامعات../أودع البلدان والأوطان../أودع الأديان…/أودع أقلامي وساعاتي../أودع كتبي وكراساتي../أودع المنديل الذي يودع المناديل التي تودع../الدموع التي تودعني../أودع الدموع”.
لقد تجرّأ الموت وسأل أولاد أحمد لماذا يعيش..؟!
ولا بدّ أن يكون المرء سخيفا ليسأل الموت عن علاقته بأولاد أحمد.غير أنّي صرت سخيفا لحظة من زمن..وفي تلك اللحظة عندما نظرت إليه يستلقي في استقرارة أبدية بلا عيون،سألت لماذا يموت الشعراء العظام..ولماذا يولدون مصادفة في الزّمن الخطأ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم، ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر.. ؟!
وأدركت أنّ السؤال قدريّ..وأدركت أيضا أنّ الدموع لا تمسح تراب الأسى..إلا أنّ القصائد التي نحتها-الشاعر الراحل-بحبر الرّوح..ستظل تحلّق في الأقاصي ويتغنى بها القادمون في موكب الآتي الجليل..
..وهذا عزاؤنا في المصاب الجلل..
محمد المحسن
*كلمات:كريمة الشاعر الراحل محمد الصغير أولاد أحمد
*تنويه:بعض الجمل الواردة بهذه اللوحة القصصية مستوحاة من الخيال وقد اقتضاها المسار الإبداعي ليس إلا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق