الجمعة، 24 أكتوبر 2025

**((جَحْشُ شُغْل)).. قِصَّة: مُصطفى الحاجّ حُسَين.

 **((جَحْشُ شُغْل))..

قِصَّة: مُصطفى الحاجّ حُسَين. 


هذه.. ليست صفاتِه الحقيقيّة، إنّما أنا أقولُها من عندي، لأنّني أكرهه، مثلما كانت عمّتي تكرهُه، وتبغضُه، ولا تُحبّه. فأنا لا أُطيقُ كلَّ من تُعاديه عمّتي، لأنّني أحبُّها، ومُتعلِّقٌ بها.  


هو قصيرُ القامة، مُندلقُ الكرش، كبيرُ الرّأس، يُغطّي صلعته بطاقيّةٍ سوداء، غليظُ الحاجبين، صغيرُ العينين، أَفطسُ الأنف، واسعُ الفم، له شواربُ طويلةٌ، غزيرة، ومعكوفة.  


كَفّاهُ سَميكتان، ذاتُ أصابعَ ثخينةٍ وقصيرة، ولهما أظافرُ تُشبه المخالب. قبيحُ الصوت، شِرواله طويلٌ أزرق، يكادُ يصلُ قدميه.  


سَقيمُ الفَهم، بَليدُ الذّهن، لا يقرأ، لا يكتب، عديمُ المشاعر، غبيُّ المظهر...  

هذا (هو)، من سيتزوّج عمّتي، الصّبيّة السّمراء، الظّريفة الوجه والقَوام!

كلُّ مَن في العائلة رفضه، وبشدَّة وازدراء، وفي مقدِّمتهم كانت عمّتي. ومع هذا، صمَّم جدِّي على تزويجه من ابنته، بحجَّة أنّه:

- ابن الحارة، إنسان نعرفه، ولا نجهله، وهو (جحش شغل)، وليس برجل التنبُّلة والكسل، وعديم المسؤولية، مثل شباب هذه الأيّام.


هكذا كان يصفه جدّي، حين كانوا يحتجُّون عليه.


بكَتْ عمّتي كثيرًا، وصارحتْ جدّتي مرارًا، وقالت:

- لا أريده... لا أُطيقه... أَقرف من شكله.


لكنّ جدّي لا يُناقِش أبدًا، وجدّتي ــ رغم كلّ القوّة التي تتمتّع بها، وذكائها الحاد، الذي كان يقدِّره كلُّ مَن حولها، رجالًا ونساءً ــ وجدتْ نفسَها عاجزة عن إقناعه.  

وخاصةً إن وُجِد هناك مَن يُعارِضه أو يحتجّ عليه.  


أما عمّتي، فقد عبّرت أمامه عن استيائها، 

ورفضها الشّديد لهذا العريس، لذلك اقتضى الأمر أن يُعاند جدّي ويتحدّى، والويلُ لمن يُخالفه، إن كانت جدّتي، أو كانت عمّتي، أو أبي، أو حتّى إخوته، بما فيهم كبيرهم.


راودتها فكرة الانتحار، أن تصبّ على نفسها (قنّينة الكاز)، ثمّ تولّع النار في جسدها!.. وعمّتي لا عيبَ فيها، حتّى يُلقي بها جدّي، لهذا الخاطب القادم! فهي شابّةٌ، في مطلعِ عمرها، جميلةٌ، تُعَدُّ من فاتنات صبايا المدينة، ذكيّة، مرحة، تُغنّي، وترقصُ في الأعراس، و(تُهلْهِلُ)، و(تزغردُ)، و(تُصفّقُ)، وتُبهر الحاضرين. وكانت موضعَ اهتمامٍ، وإعجاب، وترحاب، واحترام.


كلُّ ما في الأمر، هو عنادُ جدّي، وحبُّه الشّديدُ للتحدّي، و(تيبيس) الرّأس!.. فهذا العريس، الذي جاءت أمُّه صدفةً وطلبت يدَ عمّتي لابنها، بعد أن رأتها في عرسٍ من أعراس الحارة، ونالت استحسانها، فابنُها لم يكن يعرفُ عمّتي، لولا الوصفُ الذي نَقَلَته له أمُّه، وأخواتُه الأربع. ولم يظهر عليه، حين جاء يطلُبُ يدَها من أبيها وأهلها، أيُّ شغفٍ أو تَعلُّقٍ خاصّ بها. أمّا عمّتي، فرأته من خلال ثقب الباب الخشبيّ.


يعني، لم يكن يُحبّها، أو متعلّقاً بها. فلو كانت أمّه طلبت له فتاةً غير عمّتي، لوافق على الفور! هو يريد أن يتزوّج من أيّ فتاة، مقبولةِ الشكل، من عائلةٍ ذات سمعة طيّبة. يعني، كان تصرّفُه تصرّفًا عاديًّا، وطبيعيًّا، مثلُه مثلُ أيّ شابٍ في هذه البلدة، حين يُقدِم على الزواج: يُرسلُ أمَّه، أو أختَه، أو أيّ واحدة من عائلته، مكلّفةً من قبله بالبحث عن عروسٍ تُناسبه.


وجدّي كان ينظر إليه على أنّه شابٌ خلوق، ذو سُمعة طيّبة، يعمل بجدٍّ ونشاط، ولا يفتعلُ المشاكلَ مع الآخرين، ولا يتعاطى...

الحَرام!.. يعني، مِثله مثل معظم شباب البلدة.


وكانت الأمور عاديّة وطبيعيّة: شابٌّ تقدَّم لخطبة فتاة، وكان مطلوبًا من أهلها أن يُوافقوا، أو يعتذروا، وينتهي الأمر.


لكنّ المشكلة كانت تكمن في عقليّة جدّي وعناده.. فهو لا يعيش قلقًا على ابنته من العنوسة، بل يُدرك أنّ هناك ألفَ شابٍ قد يتقدّمون ويطلبون يدَ ابنته.


لكن، ولأنّها تجرّأت وعبّرت عن رأيها، بهذا العريس، وبكلّ وقاحة، وأمام أبيها، قالت:

– لا.


لذلك، كان على والدها أن يُعاقبها، ويُصرّ على خطبتها لهذا الشّخص العادي، وغير المهم.. فقط ليُثبت للجميع، أنّ كلمته هي النّافذة، وعلى الجميع أن يخضع لها.


حذّرتها جدّتي، وأنذرتْها، وقالت لها:

– الانتحارُ حرام!.. وعندَ الله، ستبقينَ خالدةً، مخلّدةً في جهنّم. وأنتِ تؤمنين بالله، وتعبدينه، فكيف تُقدِمين على فعلٍ نهانا الله عنه؟!


فكّرت أن تبعث لخطيبها خبرًا، تُعلمه فيه:

– أنا لا أريدك.. غَصَبني والدي على قبولي بخطبتك لي.


لكنّ عمّتي الكبرى لم تُوافقها على ذلك، ونبّهتها إلى خطورة هذه الخطوة، إن هي أقدمت عليها:

– ماذا؟!.. هل جُنِنتِ؟!.. ألم تُفكّري بأبيك؟!.. قَسَمًا، يَذبحكِ على فمِ البئر، ويَرمِيكِ فيه!


وانتهى بها التفكير، إلى أن تُكاشف أمَّه، وتُبلِغها بعدم موافقتها على الزواج من ابنها.. فهي مُجبَرة، وبرغمٍ عنها، سيتمّ ذلك.


لكنّ عمّتي الوسطى، وبّختها، وعارضت فكرتها، وبيّنت لها ما سيترتّب على مكاشفتها لحماتها بهذا الاعتراف.. ثمّ هل سيسكت جدّي عنها لو فَعَلت؟!


الجميعُ طلبوا منها الصّبرَ والموافقة، وقالوا لها:  

– تلك هي مشيئةُ الله.


وتمّ زواجُ عمّتي بهذه الطّريقة القاسية.


كانت أمّي في العُرس، تستقبل النّساء، وتَرقص، وتُصفّق.  


وحين تدخل المطبخَ لإحضار شيء، كانت تسمحُ لدموعها أن تنسابَ بصمت، دون أن يراها أحد.  


فقد كانت صديقةً حقيقيةً لعمّتي، وتحبُّها بصدق.*


 مصطفى الحاجّ حسين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق