مدينة القديس
✍️ بقلم الشاعر توفيق حجلاوي
بعيني سأرتقي إلى السماء السابعة
أبلي نفسي بنفسي...
أرقيها...
من العشق المدنس...
من الأرواح الشريرة...
من ريح اليُتم...
لعلها تفتح لي نوافذ النسيان،
ويضحو يقيني يقينًا...
بخلطةٍ عُجنت بنبيذ السراب،
أنشئ مدينتي التي لم تُنشأ بعد...
مدينة المقدسات...
هناك... وعلى مقربةٍ مني،
تلامس طهارةَ وعذريةَ الشمس،
تشهدُ تزاوجَ النجوم،
تتلذذ الخمرةُ تلامس الثمالة،
لا مكان للمجون...
يُعدم التمني...
تنتفي الأحلام...
يُعَوِّضُ السكونُ لغةَ السكوت،
تزول الآلام...
تعمّ النشوة...
تشهد ضوء البنان الخافت،
يمتزج الليل بالنهار،
لا النور يتعب المقل،
ولا السواد يجهد الناظر...
اليقين يقيني...
والدوّار دوّاري...
هناك سأظل أرتقي...
حيث يتجلى النور في صمتي،
وتسكن العوالم في نغمي،
تسقط الأقنعة عن الوجوه،
وتنطفئ المرايا،
فلا يبقى إلا الضوء...
ولا سكنها سوى القديسين...
بالبند العريض أخطُّ على أسوارها:
"لا تَقْرَبِ المكانَ ما لم تكن قديسًا."
🔹 التحليل الأكاديمي
تتأسّس قصيدة «مدينة القديس» على رؤيةٍ تأمليةٍ عميقة في جدلية الطهر والدنس، والإنسان والروح، والواقع والمطلق.
ينطلق الشاعر من تجربةٍ ذاتيةٍ ليحوّلها إلى مشروعٍ كونيّ للبحث عن الخلاص الروحي، إذ يبدأ بعبارةٍ ذات طاقةٍ صعودية:
«بعيني سأرتقي إلى السماء السابعة»
كأن الذات الشعرية تعلن منذ البدء تمرّدها على الأرض واتجاهها نحو أفق التطهّر.
في هذا الصعود، يتجرّد المتكلّم من شوائب العشق المدنّس والأرواح الشريرة، ويخوض رحلة تصفية داخلية، لينشئ عالمًا بديلًا يسميه مدينة المقدسات — مدينة لا تسكنها إلا الأرواح الطاهرة، ولا يخطو إليها إلا من تجرّد من أهوائه.
على المستوى الفني، يوظّف الشاعر إيقاع التكرار ليؤكد حالة الدوران الصوفي في قوله:
«اليقين يقيني... والدوّار دوّاري»
فتغدو اللغة دائرة مغلقة لا تنفك عن ذاتها إلا لتعود إليها، كما تتجلّى قدرة الصورة الشعرية في مزج المحسوس بالمعنوي:
«تشهد تزاوج النجوم... تتلذذ الخمرة تلامس الثمالة»
حيث تتداخل العناصر الكونية بالروحية، والخمرة بالقداسة، لتنتج حالة وجدانية عالية التوتر والسمو.
ويبلغ النص ذروته حين يعلن الشاعر أن هذه المدينة لا يدخلها إلا من بلغ مرتبة القداسة:
«لا تَقْرَبِ المكان ما لم تكن قديسًا»
عبارة تجمع بين التحذير والقداسة، بين الحلم والحظر، لتُغلق الدائرة التي بدأت بالصعود وتنتهي بالتقديس.
وهكذا تصبح القصيدة تجربة روحانية متكاملة، تتجاوز البعد الذاتي إلى أفقٍ إنسانيٍّ مفتوح، حيث يتحوّل الوجع الدنيوي إلى بساطةٍ ميتافيزيقيةٍ خالصة.
✨ الخلاصة
قصيدة «مدينة القديس» نصٌّ رؤيويٌّ يمتح من الصوفية دون أن يفقد معاصريته، ويوازن بين اللغة الشعرية المشرقة والتجربة الوجودية العميقة.
إنها ليست قصيدة عن الطهر فحسب، بل دعوة إلى ارتقاء الإنسان في زمنٍ تآكلت فيه القيم.
تبقى مدينة الشاعر قائمةً في الخيال، نداءً لمن يبحث عن المعنى وسط العدم، وسيرةَ روحٍ تتطهّر بالكلمة حتى تبلغ نور اليقين.
🔸 عن الشاعر
توفيق حجلاوي — شاعر تونسي، يكتب في فضاء التجربة الوجدانية والفكرية الحديثة.
تتّسم نصوصه بالعمق التأملي واللغة المكثّفة المشبعة بالرموز والدلالات الصوفية.
يسعى في كتاباته إلى المزاوجة بين الرؤيا الفلسفية والدهشة الشعرية، ليمنح الكلمة بعدها الإنساني والكوني.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق