الراقصة
زنابق بيضاء لا تزدهر إلا في ضوء القمر .
تذوي إذا مستها الشمس.
هي التي كانت تُحبّها وتعرف أماكن وجودها. تسيرُ إليها حافيّة عند إكتمال البدر.
تُدميها الأحراش و إبَرُ الصّنوبر .
تُجٍدُّ في الذهاب إلى حافة النّهر مُتناسية الأصوات التي تصيحُ فيها تمنعها .. تُهدّدها تُثنيها.
“إذا لم تخافي من الضياع فخافي من السباع المترصدة خلف عتمة الأكمة..
روح مُتنطّعة كروحها لا تُدركُ معنى الخوف والخطر..
كان أمْنُها الغرير يَكبُر فيها مع حفيف أشجار الصفصاف وهي تضمُّ إلى صدرها أزهار الزنابق القصيرة العُمر…
حِنكتُها هزيلة وميراثُ الطّبيعة المتوحّش فيها كبير..
أيقنتْ أنّها في حاجة إلى إنعتاق سحريّ لروحها.
في حاجة إلى نغم حالم صاخب كنفسها المتقلبة في حاجة إلى طفرة هائلة من العشق..
“طريقكِ ملتويّة كالثّعابين وكلّ جنون منكِ هو لدغة..
تتباعد الأزمنة والأمكنة وتتوحّد الّلدغات…
في جنون تتقافزُ ألسنة النّار أمامها فتنزَعُ عنها كلّ أثواب الغواية..تتعرّى تماما…
قد تُستثارُ النار وتَغرس مخالبها فيك….
تتطلّعُ الأحراشُ إلى جسدها المتوهّج وهو يغوص في اللّهب المُستعر …
تتباعث الموسيقى من الكائنات المحيطة بها المُحدّقة فيها.
خفّت الرياح من عويلها لتتأمّل وجه الراقصة وهي تتطلّع بعيدا خلف ستائر الزّمن…
“أنتِ تُنشدين اللّعنات تتعرّين ترقصين وسط النار على إيقاع الجنون ”
ماذا تفيد النصيحة مع من تلبسته شياطين العشق ..
لقد إحتلّ التمرد كلّ ذرّة فيها ليَهبها الحريّة والإنطلاق …
ملأت الوهاد والسهول داخلها وخارجها بالقتلى
فكانت تضحك وتبكي بلا سبب…
يا بؤسها … هي عاشقة ولا تدري من عشيقها….
طاردتها الأصوات وأهاجتها النّغمات…
توسّلت الزنابق من أجلها كثيرا حتى لا تُغافلها النار وتلتهمها بين أحشائها..
توسّلت إلى القُوى الخارقة في مُخيّلة البشر أن تجعل النار بردا وسلاما على راقصة القمر…
توسّلت إلى الشموس إلى الأقمار إلى الوهاد والأدغال إلى الجبال والأنهار أن تنتشلها من بوتقة أتون الجحيم…
توسّلت الزنابق وجدّت في التوسّل فهي قصيرة العمر وحبيبتها دامية القدمين على نصال الشوك تسيرُ….
تناهى للثلوج البيضاء
توسّل الزنبقة و النداء
فكان لراقصة القمر ساترا بارد الهواء…
تناهى لطحالب البحار السمراء توسّل الزنبقة والنداء
فعجنت لجروح الأقدام الحنّاء .
تناهى للكروم توسّل الزنبقة والنداء.
فسكبت بين شفتيها خمرا لها طُهر الماء..
لم تكف الزنبقة عن لمس الراقصة تتحسسُها فعمرها قصير وهي تخاف الفناء..
أينعت الزنبقة عندما لامست العُريّ الرّاقص فامتلأت بعصارة الخُلد وتجدُّد التّكوين…
…
تنسحب أفعى بين الأحراش وتُطلق صوتها فحيحا “الخلد… الخلد..ما أشد ضُعف ذاكرة الزّنابق مع عدم إدراكهم لدورة الموت والحياة ”
لم تُخلق راقصة القمر على شاكلة العامة…
هم خائفون إلى درجة الخنوع لا يسألون لا يُفكّرون فما سرّها؟؟؟
هرست الأفعى الأعشاب و مزّقت الأغصان واقتحمت الدّغل ومرّغت وجهها في الرّماد تحت أقدام الراقصة..
وقالت “لقد بحثت عنك طويلا وقتلتُ من أجلك كثيرا
حتى أظفر بسرّك..”
إنطفأت النار وانسحبت الزّنابق
واستسلمت الراقصة للمسات الّلزجة للأفعى وهي تنزلق على جسدها المرتعش..
كشّرت على أنيابها وهمّت بلدغها ثم قالت
“خرقتِ الأعراف والأوامر..تجرأتِ على الرقص عارية وسط اللهيب وما احترقتِ..ولّدتِ أعمارا لقصيرة العمر الزنبقة فما سرّك؟
“إنّه العشق ..العشق الكبير الذي مسّ قلبي..”
“سرّك منقوص مشبوه…”
ثمّ صاحت مقهقهة…..
“العشق؟ العشق؟
انصرفي.. أبتعدي..انفجري ”
لم تتوقّع الراقصة الخلاص فأخذت تعدو بلا وجهة تعرفها..
قالت الغربان في أعالي الأشجار
والضفادع على ضفاف الأنهار.
“الأفعى لا تترك حسنا سالما ”
كانت الزنبقة تستمع متألمة إلى كلماتهم
“آه لو تستطيع راقصتي التغلّب على كل هذا الثوران البريّ داخلها وتستنكف بالخضوع كغيرها”
بكت الزنابق وانتحبت الأشجار
ضاعت الراقصة في العتمة. رحل الجميع وبقيت وحيدة في الوهاد القاحلة حينها أدركت أنّها تحتاجه رغم التباس طقوس الولاء..
كانت تراه من حيث يراها.
“قال من عليائه اتبعيني ”
فسارت مضطربة القدم في الحلكة في المنحدر الوعر تخشى الزّلق وتخاف الوحشة..
صرخت وصاحت وسقطت على أديم الأرض ممسكة بكاحلها وقد بدأت البرودة والزرقة تغزو جسدها….
انتفضت ثمّ مدّت يدها إلى مكبح الدوش البارد تُغلق زخّاته..
التفت ببرنسها الورديّ واستلقت تُنشد الاسترخاء بعد رقصتها الصباحيّة اليوميّة.
هادية آمنة
تونس