أسيرة المصالح
بقلم هادية آمنة
تونس
العالم اليوم يُدار بمنطق المصالح قبل المبادئ، ولذلك تُدفع فلسطين دائمًا إلى موقع الضحية في لعبة دولية قاسية لا تُقيم وزنًا للإنسانية ما دام ميزان القوى يميل نحو حماية مصالح الدول الكبرى أولاً. وهذا ما يجعل غزة كبش فداء للمشهد الدولي، مهما علت الشعارات التي تُرفع باسم العدالة وحقوق الإنسان.
وفي هذا السياق، جاء قرار مجلس الأمن بإنشاء قوة أممية في غزة، وهذه القوة ليست عربية فقط كما توقّع البعض، بل هي قوة متعددة الجنسيات، تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة وبقيادة موحّدة يشرف عليها “مجلس السلام” الذي نصّ عليه القرار. وهذا يجعلها عرضة للتأثر بتوازنات المصالح الدولية، لأن تركيبتها ليست منسجمة ثقافيًا ولا سياسيًا، بل تجمع دولًا تخضع جميعها للنظام العالمي الذي كثيرًا ما انحاز للكيان الصهيوني.
وتزداد المخاوف مع الصلاحيات الواسعة التي مُنحت لهذه القوة، خصوصًا أنها ليست قوة مراقبة أو إغاثة فحسب، بل مُنحت حق استخدام كل الوسائل اللازمة لتنفيذ مهمتها، ومن ضمن هذه المهام: نزع السلاح من الجماعات غير الحكومية في غزة. وهذه النقطة خطيرة، لأن تجريد غزة من السلاح قد يتحول واقعياً إلى تجريد الشعب من قدرته على الدفاع عن نفسه في المستقبل، وفتح الباب لهيمنة أمنية خارجية تُعيد إنتاج شكل من الوصاية يشبه ما عاشته فلسطين في عهد الانتداب البريطاني، ولكن بصيغة حديثة.
كما أن القرار ينصّ على دعم “قوات شرطة فلسطينية مدقّقة”، أي مختارة بعناية، ما يعني أن الأمن الداخلي نفسه سيصبح تحت رقابة دولية، مما قد يحدّ من استقلالية القرار الفلسطيني، ويجعل غزة خاضعة لرقابة أمنية مزدوجة: رقابة دولية، ورقابة محلية مصدّقة ومصفّاة وفق معايير الأطراف الخارجية.
ومن هنا تأتي أهمية الدور الجزائري. فالجزائر، بما تمثّله من ثبات مبدئي ودعم صلب للقضية الفلسطينية، قادرة إذا اختارت المشاركة أو الضغط السياسي، أن تفرض توازناً داخل هذه القوة الدولية، حتى لا تتحول غزة إلى منطقة “وصاية جديدة”، وحتى لا تُستخدم القوة الأممية كأداة لفرض رؤية خارجية على الشعب الفلسطيني. فوجود الجزائر أو أي دولة ذات موقف صلب داخل هذا الإطار هو ضمانة أخلاقية وسياسية تمنع تكرار التاريخ، وتكبح كل محاولة لإعادة صياغة غزة وفق مصالح القوى الكبرى.
ورغم كل هذا المشهد الملتبس، يبقى أقلّ الشرور هو وقف إطلاق النار وإعادة إعمار غزة، لأن الإنسان هناك يحتاج إلى الحياة قبل أي حساب سياسي. ومع ذلك، ورغم الظلم الطويل وتكالب القوى على المظلوم، فإن التاريخ علّمنا أن الحق لا يموت، وأن النصر مهما تأخّر يبقى أقرب مما يظنّ الظالم وأقرب مما يتخيّله اليائس.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق