الجمعة، 28 نوفمبر 2025

عندما يئنّ الحرف يكتبني سطورًا مائلة. بقلم الكاتبة هالة بن عامر تونس

 عندما يئنّ الحرف يكتبني

سطورًا مائلة.


الحرف…

ليس مجرّد نسيجٍ من الحبر، بل شهيقٌ يولد من رحم الوجع، كأنه القرين الذي يسير بجانبي بلا ظلّ.

كائنٌ حيّ من صدى الألم، لا من لحمٍ أو دم، يتنفّس من فراغات الروح

يتمدّد في أضلاع القلب كما يتسرّب الضوء في شقوق الجدار المتصدّع، ويبحث عن لغةٍ تشبه غيابها، عن كلماتٍ تولد من الهشيم الذي تحترق فيه المشاعر.


حرفي مرآةٌ لا تعكس وجهي، بل تكشف صمتي، تفضح ما خبّأته الروح في أزقّة القلب الضيّقة، بين زوايا الحنين ورفوف الخوف.

حيث تتراكم الكلمات كما تتراكم الأمواج على صخورٍ بلا رحمة، تتراقص الظلال عليها وكأنها أشباحٌ تبحث عن خلاص.

كلّ جرحٍ أُلقي عليه

يتحوّل في السطور إلى ظلٍّ يتكلّم، ينطق حين أعجز، ويبكي حين أتجمّد، ويصنع موسيقى صامتة تهتزّ في أذن الورق.

كأنّ الورقة نفسها تتنفّس معي.


الكلمات لا تُولد في رأسي، بل تنساب من أعماقٍ مجهولة، تجري في الحبر كدمٍ آخر،

يحمل المشاعر بأمانةٍ لا يجيدها البشر

يكتب ما لم أستطع أن أقول، يستعيد ما ضاع في دهاليز النسيان، ويحوّل الألم إلى لوحاتٍ من نورٍ وظلال،

كأنّ السماء نفسها أرسلته عبر قلمي.


أكتب…

لا لأروي ما حدث،

بل لأمنح أوجاعي هيئةً قادرةً على البقاء

لأمنح اللحظة حقّها في التمدّد،

لأثبت أنّ الروح لم تمت، وأنّ الحرف قادرٌ على احتواء ما لا يحتمله الفم

وكأنّ كلّ سطرٍ نافذةٌ تطلّ على أزمنةٍ لم أَعِشْها بعد.


فالحرف قرينٌ يعرفني أكثر ممّا أعرف نفسي

يولد مني، لكنّه يعود ليكتبني كما يشاء القدر، ويمنحني صورةً جديدةً في كلّ مرّة، كأني أعيد ولادة نفسي بين سطورٍ منحنية، بين حبرٍ يئنّ، وألمٍ يُرتّب نفسه بصمت، بين صدى الماضي وهمس المستقبل.


وهكذا… حين يئنّ الحرف،

لا يكتبني مستقيمةً كما يتخيّل القارئ، بل يكتبني مائلة…

في ذلك التأرجح الخفيّ بين الصمت والبوح، حيث تُدفَع روحي دفعًا إلى الورق

كأنّ مشاعر مبهمة — تتخفّى بلا عنوان، بلا هوية —

تنهض فجأةً من عتمتها،

تنساب بلا إرادةٍ مني،

وتسوقني إلى الكتابة قسرًا،

كقوةٍ خفيّة تمسك بقلمي من معصمي

كأنّ الكون نفسه يهمس في أذني: «اكتب… بلا مفر»،

ويتركني أتأرجح بين ميل الحرف وانحناء روحي.


أميل في السطور

لأنني أميل داخليًا

ولأنّ ما يفيض في القلب

لا يمكن أن يستقيم حين يخرج،

كخيطٍ يتلوّى بين أضلاع الورق،

كظلٍّ يتراقص على جدار الوعي،

كألمٍ يلبس هيئة فرحٍ ليخدع نفسه

كصوت الريح الذي يهمس في الغرف الخالية.


فالوجدان حين يتداخل ويغدو لغزًا

حين تتشابك الألوان المظلمة للذاكرة مع ضوءٍ خافتٍ من الأمل

لا يجد طريقه إلا عبر حرفٍ

يكتبني كما يشاء…

لا كما أشاء أنا

ويتركني معلّقةً بين الانحناء والاستقامة

بين الصمت والبوح

بين نفسي والحرف الذي أنجبني،

بين نبضٍ داخلي وهمسة الحبر،

بين هذا العالم والعالم الذي يولده الحرف في داخلي

حيث تصبح السطور حياةً تتنفّس قبل أن تُقرأ.


هالة بن عامر تونس 🇹🇳



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق