**((انكسار النّدى: وجع الذات في مرآة المنفى))..
((ضياء الدين قنديل))..
دراسة نقدية في القصيدة الحديثة للشاعر "مصطفى الحاج حسين".
تمثّل قصيدة "انكسار النّدى" صوتًا شعريًا يتقاطع فيه الذاتي بالجمعي، والوجداني بالوطني، ضمن فضاءٍ يفيض بالألم والحنين والاغتراب. وهي تندرج ضمن الشعر الحر الذي يحطّم قيود الشكل التقليدي لصالح الانفعال والصدق والتجربة.
القصيدة تعكس بوضوح تجربة شاعرٍ مكلومٍ، يكتب من قعر المنفى، مستحضراً هويته ومأساته وذاته المنكسرة أمام هول الفقد والهزيمة.
عنوان القصيدة "انكسار النّدى" يجمع بين نقيضين: "النّدى" الذي يرمز للصفاء والنقاء والبدايات، و"الانكسار" الذي يدل على التحطم والانطفاء. بذلك يرسم الشاعر صورة لغوية لحالة ذاتية ونفسية مأزومة، حيث الجمال يُجهَض، والحلم يُكسر، والرقة تُقهر، وهي دلالة تمهّد للدخول في عوالم داخلية غارقة في الوجع والخذلان.
تتميز القصيدة بلغتها المكثفة وصورها الشعرية الرمزية العالية:
- الزمن والمكان: النص يدور في فضاءين متقابلين: خارجي (البحر، الشاطئ، الجبال، النوافذ) وداخلي (الصمت، الحنين، الحزن، الانكسار)، ليعكس التوتر بين العالمين.
رغم غياب الوزن التقليدي، إلا أن الإيقاع ينبع من التكرار (أفعال المضارعة)، والتوازي، والانزياحات اللغوية.
اللغة.. تنتقل بين المباشرة الرمزية ("حنيني يبتلع شظايا العنفوان") والمجاز المكثّف ("مجازيفي انكسار الندى")، مما يمنح القصيدة عمقاً دلالياً وإيحاءً عاطفياً.
القصيدة تجسيد حيّ لانهيار الداخل أمام قسوة الخارج. الشاعر يواجه قهرين: قهر الوطن المنكوب وقهر الغربة المنفية. الصمت هنا ليس هدوءًا بل اختناق.
الدروب هشّة، والمجاذيف مكسورة، والدليل مجرد نزيف... وكل ذلك يدل على ضياع البوصلة وانعدام الأمل.
"أُوتاد الغُربةِ دُقَّت في شراييني"
هي استعارة جسدية/نفسية تُظهر كيف تغرس الغربة في الجسد والروح كالمسامير، مما يعكس امتداد الإحساس بالاغتراب إلى الأعماق.
"البحر والجبال".. دلالتان على الصلابة والامتداد، لكنهما في النص تتحولان إلى مصدر للألم والتقلب والفقد.
"النافذة".. ترمز إلى الأمل، لكنها تفتح على "وجع الجبال"، أي أن الأمل في القصيدة نافذة على اليأس.
"الندى".. رمز للبراءة والبدايات والحنان، لكنه مكسور، ما يعني انتهاك كل ما هو طاهر.
المنفى في القصيدة ليس فقط حالة جغرافية، بل رؤية وجودية. الشاعر لا يرثي ذاته فقط، بل يرثي شعبًا، وطنًا، ذاكرة، لغة، عشقًا، وربما مستقبلًا. المنفى ليس نهاية بل انكسار لحلم.
تتصاعد العاطفة تدريجيا،
من الترقّب والحنين في بداية القصيدة إلى وجع الانكسار والخذلان، ثم إلى حلكة المستحيل، التي تبتلع "شظايا العنفوان"
كل هذه الصور والمجازات تكشف عن قلبٍ يُخفي بين ضلوعه رماد وطنٍ، وطفلٍ حُرم من البراءة، وشاعرٍ يُصارع النفيَ بالمجاز.
قصيدة "انكسار الندى" نص وجداني عالي التعبير، يجمع بين البوح الشخصي والتمثيل الجمعي، في إطار فني ينتمي إلى الشعر الحر، المعبّر عن أزمات الذات العربية في زمن التشظي والمنفى. بأسلوب شفاف ومشحون بالعاطفة والرمزية، يحوّل الشاعر تجربته الفردية إلى حالة إنسانية شاملة، ليؤكد أن القصيدة ما زالت قادرة على أن تكون مرآة للروح ومتنفسًا للألم، وصرخة لا تنطفئ.*
ضياء الدين قنديل.
**(( انكسارُ النَّدَى ))..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
تفتحُ النّافذةُ أُفقي
تُطِلُّ على وجعِ الجبالِ
المَرارةُ باسقةُ الدّمعِ
والبَحرُ تتقاذفُهُ الخَيباتُ
والشاطئُ يَصطادُ لَوعتي
وأنا أَرسو في قَعرِ الصّمتِ
أتَعقَّبُ خُطى الوَهمِ
دَليلي نَزيفُ الصَّدَى
مَجاذيفي انكِسارُ النَّدَى
ودُروبي هَشاشةُ الوَميضِ
تَتقاذَفُني حُرقتي
وتَقودُني حَلكةُ المُستحيلِ
أوتادُ الغُربةِ دُقَّت في شَراييني
وحَنينِي يَبتلعُ شَظايا العُنفوانِ
المُمتدِّ من جَذري
إلى رَمادِ الهزيمةِ.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق