حتى لا ننسى-الشهيدة-مها القضقاضي*:
-إلى روح التلميذة مها القضقاضي التي جرفتها السيول بمنطقة "أولاد مفدي"من معتمدية فرنانة ذات زمن موغل في الدياجير..
الفتيات البائسات من بنات الطبقة الفقيرة والمهمشة يولدن مصادفة في الزمن الخطأ،ويرحلن كومضة في الفجر،كنقطة دم،ثم يومضن في الليل كشهاب على عتبات البحر..
شهيدتنا مها:منذ رحيلك وأنا متمترس خلف خط الدفاع الأول عن تونس التحرير ضد كل أشكال الفقر والتهميش،وأحاول جاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..
إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق..
ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما هبّت نسمة من -معتمدية فرنانة-التي أوغل برحيلك ليلها في الدياجير..
ماذا تعني كلمات أو مفردات:منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟!..
لا شيء سوى الفراغ الذي كنت تملئينه فيما مضى.يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه..
التلميذة/الشهيدة مها-:الزّمان الغض،المضاء بشموس النصر والتحدي..الزمان المفعم بإشراقات الآتي الجليل،ما قبل إدراك الخديعة،بغتة الصدمة وضربة القدر..
تونس الحزينة ترثيك..رفاق دربك الشقي يبكونك...فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..
أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان..!
هل كان الحمام التونسي يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكوني واحدة من-قبيلته-،بعيدة عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن؟!
نائمة هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.
في الزمان الحُلمي،كما في رؤيا سريالية،سأحملك على محفة من الريحان،بعد تطهيرك بمياه الوديان،من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية بإتجاه البحر..
سيسألني العابرون :إلى أين؟
في السماء نجمة أهتدي بها.أعرفها.تشير دوما إلى تونس.أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوق-منطقة أولاد مفدي من معتمدية فرنانة-تضيئها بلمعانها المميز عن بقية الكواكب.
وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات.أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي..
قبل هذا الإحتفال الأخير سأطوف بك حول مدرستك التي أحببتها،مهد المعرفة-حيث يرثيك أهلك وذويك..بدمع حارق يحزّ شغاف القلب..
يسألني العابرون أو أسأل نفسي: هل محاولة إستعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟..لا أعرف شيئا..!
حين يأتي المساء الرّباني سننلتئم تحت خيمة بالشمال الغربي.نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح،ونبدأ الإحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق الهضاب"الفرنانية"..
أما أنتم -يا تلاميذنا..يا من تحملون مشعل المعرفة وتحلمون بغد مشرق تصان فيه كرامة الإنسان-:إذا رأيتم-مها القضقاضي-مسجية فوق سرير الغمام فلا توقظوها،إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.
إذا رأيتم-الشهيدة-نائمة في الصمت الأبدي فلا تعكرّوا سكينتها بالكلمات.
اسكبوا دمعة سخيّة على جبينها الوضّاء ،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..فشهيدتنا رحلت إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين،تاركة خلفها دموعا غزيزة بحجم المطر..دموعا لن تمسح تراب الآسى..
نامي بهدوء..يا صاحبة العيون العسلية..
وداعا -شهيدتنا-مها القضقاضي..
محمد المحسن
*استيقظت تونس في 12 نوفمبر 2019 على صدمة وفاة الطفلة مها التراجيدية،وتبادلت دوائر إدارية وسياسية عديدة الاتهامات بالمسؤولية عن مأساتها.ربما تركت الفتاة اليافعة بابتسامة ونظرة بريئة منبعثة من عينيها الزرقاوين رسالة قاسية، يمكن قراءتها،ولكن من الصعب الجزم بأنها ستغير شيئا في واقع مواطناتها ومواطنيها.
وهنا أؤكد أن الشهيدة مها القضقاضي أبكت التونسيين وأحرجت الحكومة،فمجرد الإعلان عن وفاة الطفلة ذات 11 ربيعاً بعد أن جرفتها السيول، كان كافياً للكشف عن حالة البؤس التي يعيشها سكان المرتفعات الغربية المتاخمة للحدود الشمالية مع الجزائر،ومنها ولاية جندوبة ذات التضاريس الجبلية،حيث يتوزع السكان المحليون في مواقع مفتوحة على كل التحديات من أجل البقاء.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق