**((كرامةُ أحمق))..
قصة: مصطفى الحاج حسين.
حينَ نِلتُ جائزةَ الإبداعِ الأدبيِّ والفكريِّ من دولةِ الكويتِ، ذهبتُ إلى دمشقَ لأصرِفَ الشِّيك، لأنَّ البنكَ في حلبَ لم يُسلِّمني المبلغَ.
ذهبتُ بمفردي ليلًا، وكنتُ في تمامِ الثامنةِ صباحًا أقفُ أمامَ البنكِ.
صَرَفوا لي المبلغَ، وعلى الفورِ عدتُ راجعًا إلى حلب.
الوقتُ صباحًا، والرُّكَّابُ قلَّةٌ، والبُولماناتُ كثيرة.
قطعتُ تذكرةً وصعدتُ، وقدَّمتُ التذكرةَ للمُعاوِن، فقال لي:
– لا ركابَ كُثُر، اجلسْ حيثُ ترغبْ.
اخترتُ مقعدًا، خلعتُ مِعطفي، ووضعتُه مع حقيبتي الصغيرةِ على الرَّفِّ فوقَ رأسي، وجلستُ.
وحين تحرَّكتِ الحافلةُ لتمشي، صعدَ رجلٌ يَشكو من شللٍ في رجلِه، ومعه امرأةٌ.
والمقاعدُ كثيرةٌ وفارغةٌ، نحنُ بُضعةُ ركابٍ، لا يتجاوزُ عددُنا العشرةَ.
لكنَّ هذه المرأةَ نظرتْ في تذكرتِها، وتقدَّمت نحوي، قالت:
– هذا المقعدُ لنا.
ابتسمتُ لها، وقلتُ:
– أُختي، المقاعدُ كلُّها فارغةٌ.. اقعدي أينما أردتِ.
قالت بحدَّةٍ:
– هنا مكانُنا.. وسنقعدُ هنا.
نظرتُ إليها.. تأمَّلتُها جيِّدًا، تبدو هذه المرأةُ رَزيلةً، ووقحةً، ووَسِخةً.. وزوجُها عاجزٌ، وتبدو عليه علاماتُ الطِّيبة، فحاولتُ إقناعَها بلُطف:
– أُختي، ما الفرق؟!.. أنا سألتُ المعاوِن، وقال لي: اجلسْ في المكانِ الذي تُريده، وجلستُ هنا بعد أنْ خلعتُ مِعطفي، ووضعتُ حقيبتي كما ترين، فلماذا تُريدين عذابي؟!.. المهمُّ أنْ نصلَ بالسَّلامة.
صاحتْ غاضبةً، بطريقةٍ بشعةٍ:
– انهضْ من مكانِنا، يا عديمَ الذوقِ!
وقبل أنْ أردَّ عليها، فأنا شعرتُ برغبةٍ بالتحدِّي.
قال لها زوجُها:
– تعالي إلى هذا الكرسي.. يعني ما الفرق؟!
زَعقتْ بوجهِه بانفعالٍ، وعدمِ اكتراثٍ واحترامٍ:
– اسكُتْ أنتَ، لا علاقةَ لكَ بالأمر!
قرَّرتُ ألَّا أُعطيَها المقعدَ، مهما كلَّفَ الأمرُ، مع أنَّه لا فرقَ عندي بين مقعدٍ وآخر، بل لستُ جاهزًا لمثلِ هذه المشكلةِ التافهةِ.
فأنا سعيدٌ بحصولي على هذه الجائزةِ العربيَّةِ، والتي كانت حلمَ جميعِ أصدقائي، وأنا لا أحمِلُ الابتدائيَّة، في حين كان عددُ من شاركَ في هذه المسابقةِ يتجاوزُ الثلاثةَ آلافٍ – نسيتُ الرقمَ – وكلُّهم من حملةِ الشهاداتِ العليا.
ثمَّ إنَّ سعادتي عظيمةٌ بهذا المبلغِ الذي حصلتُ عليه، أكبرُ مبلغٍ ألمسُه وأحوذُ عليه في حياتي، ويكونُ لي.
منذُ اليوم، لن تحتجَّ زوجتي على متابعتي للكتابةِ والنشرِ، وسيتوقَّفُ أبي عن قولِه:
– الأدبُ لا يُطعِمُ خُبزاً..
لكن هذهِ المخلوقةُ التافهةُ والسّاقطةُ، مِن أينَ بَرَزَتْ لي، لتقتلَ عليَّ فرحتي، وتُشتِّتَ لي خيالاتي وأحلامي؟!..
وتقدَّمَ منِّي المعاونُ، يسألني بلُطفٍ:
– أستاذ، من فضلك تعالَ إلى المقعدِ المجاورِ.
وتوقّفَ السائقُ عن المسيرِ، وكان قد خرجَ من المحطَّةِ، واجتازَ مسافةً ليست بالقليلةِ..
وتدخّلَ بعضُ الركّابِ، والكلُّ يرجو أنْ نُنهيَ هذه المهزلةَ..
فقلتُ مخاطباً المعاونَ:
– حينَ أعطيتُكَ تذكرتي، قلتَ لي أنْ أجلسَ على المقعدِ الذي أختارُه.. وأنا اخترتُ هذا الكرسي، فلماذا لا تطلبُ منها أنْ تجلسَ، ومن معها، على كرسيٍّ آخر؟!
قال المعاونُ، وعلاماتُ الحرجِ والارتباكِ باديَتَين عليه:
– يا أخي.. هي مُصمِّمةٌ أن تأخذَ الكرسيَّ المُخصَّصَ لها.
وتحرَّكَ السائقُ من خلفِ مقعدِه، وتوجَّه نحونا، قائلاً في استياءٍ:
– سوف أُلغِي الرحلةَ بسببِكم.. ما رأيكم؟.
صاحتِ المرأةُ، التي شكلُها وهندامُها يدُلّانِ على مستواها الوضيعِ:
– ناسٌ لا تحترمُ النظامَ والقوانينِ.
صرختُ بازدراءٍ:
– وأنتِ ما شاءَ اللهُ، تَبدينَ في قمَّةِ التَّحضُّرِ والذوقِ.
وهُنا نهضَ رجلٌ، كان مقعدُه يقعُ خلفَ كرسيِّ السائقِ، أي في الصفِّ الأوَّلِ.. واتَّجه إلينا، كان ضخمَ الجِثةِ، غزيرَ الشَّنبِ، مُكفهرَّ الوجهِ..
تقدَّم نحونا مسرعاً، في عينيه غضبٌ واضحٌ.. وحينَ وصلَ إليَّ، صرخَ:
– أنتَ رجلٌ لا يفهمُ.. ولا تأتي بالذوقِ.. هَيّا انهضْ من هنا قبلَ أن أُحطِّمَ وجهَك.
تفاقمَ الوضعُ.. وجدتُ نفسي في ورطةٍ لا نهايةَ
والمرأةُ استبشرتْ خيراً بهذا الحيوانِ.. وأنا في قرارةِ نفسي ألعنُ نفسي على هذا المأزقِ الذي وضعتُ نفسي فيه.. ليتني منذ البدايةِ نهضتُ وتخلّيتُ لهما عن هذا الكرسيِّ اللعينِ.
ولكن الآن، وفي هذه الطريقةِ المُهينةِ، صعبٌ عليَّ جدّاً التنازُلُ والقبولُ، والرُّضوخُ للأمرِ الواقعِ.. كرامتي لا تسمحُ لي أن أُهانَ.. كبريائي يمنعُني من القيامِ بكلِّ هذا التنازُلِ.
يا ربِّي، لمَ أرسلتَ لي هذه المرأةَ اللئيمةَ؟!.. ما عساني أن أفعلَ؟!..
الوضعُ تأزَّم.. الرجلُ البغلُ يقفُ فوق رأسي، ويلتقطُ أنفاسَه بصعوبةٍ.. يبدو أنَّه مجنونٌ، عصبيٌّ إلى أبعدِ الحدودِ.. جسدُه الضخمُ بحجمِ جسدي مرَّتين.. أردتُ أن أمهِّدَ لتنازلي، لخيبتِي، لمرارتي، لانهزامي، لاستسلامي، فقلتُ:
– كُلُّكم وقفتم معها لأنَّها امرأةٌ.. لكنكم لم تكونوا مع الحقِّ والمنطقِ.
لكنَّ هذا المتوحِّشَ الذي يقفُ فوقَ رأسي، لم يُمهلني.. بلِ امتدَّت يدُهُ الضخمةُ وصفعَتني على وجهي، وهو يصرخُ في هياجٍ:
- قلتُ لك انهضْ يا عديمَ الذوقِ، وإلّا قضيتُ عليك!.. أنتَ لا تعرفُ مع مَن أنتَ تتحدَّث.. ليكنْ في علمِكَ.. أنا رئيسُ مرافقةِ سيادةِ العميدِ الركنِ (مصطفى التاجر)، رئيسِ فرعِ الأمنِ السياسيِّ.
هالني ما أنا فيه من موقفٍ فظيعٍ.. أنا الآن أُضرَبُ.. أتعرضُ للضربِ من قبلِ هذا الخنزيرِ.. بسببِ تلك الحقيرةِ الفاجرةِ.. يا الله!!!
اليومُ هو يومُ فرحتي، يومُ سعادتي.. أنا حصلتُ على أهمِّ جائزةٍ عربيةٍ في الأدبِ، عن مجموعتي القصصيةِ الأولى.. الكلُّ اليومَ يحسدُني، وكان يتمنى أن ينالَ الجائزةَ بدلاً عني، فأنا بنظرِهم لا أستحقُّها، لأنِّي لا أحملُ حتى وثيقةَ الابتدائيِّ، في حينَ هم يحملونَ الشهاداتِ الجامعيةَ.
ولكن، ما العملُ الآن؟!.. أردتُ التراجعَ.. لكنّ هذا السفيهَ لم يمنحني الفُرصة.. وأنا بهذه الطريقة لا ألبّي وأتنازلُ،
حتّى لو قُتلتُ.
أحتاجُ إلى معجزةٍ من عندك يا ربي.. معجزةٍ سريعةٍ، خاطفةٍ.. لأنجو من هذا الموقفِ.. زعقتُ وأنا أَهُمُّ بالنهوضِ:
- أتَضربني؟!.. أنتَ تَضربني!!!.. ومن أجل هذه التافهة؟!.. أنا سأريك.
قلتُ هذا، بينما كنتُ في داخلي أَهزأُ من نفسي:
- وماذا ستفعلُ يا بطل؟!.. هذا يأكلك من دون مِلح.
لكن هذا الضبعَ، لم يتراجعْ، ولم تَهتزَّ لهُ شعرةٌ من شنبه الغزيرِ الشعرِ والأشقرِ اللونِ، بسبب تهديدي له.. بل امتدّت يدُه إلى خاصرتِه، واستلَّ مسدسًا، أشهرَه بوجهي، وهو يصرخُ:
- وحقِّ اللهِ سأَقتلك!.. سأُفرغ طلقاتِ المسدسِ في صلعتك!
دبَّ الذُّعرُ بين جميعِ الركَّابِ، والسائقِ، والمعاونِ، وزوجِ المرأةِ العاجزِ، بلْ وحتّى المرأةُ خافتْ وندَّتْ عنها صرخةُ ذُعرٍ .. وهي تصيحُ :
- لا.. لا تقتله!.. خلاص!.. ما عُدتُ أريدُ كُرسيَّه، دَعْه له.
وأنا بدوري كانتْ أوصالي ترتعدُ، رغمَ محاولتي كبحَ ارتعاشي.. وبذلتُ جهدًا عظيمًا لكي أتظاهرَ بالتماسكِ والشجاعةِ.
هتف السائقُ، بعد أن كان يطلبُ منَّا أن نُصلِّي على النبيِّ، ونهدأَ :
- الحمدُ لله!.. ها هي الأختُ.. تنازلتْ له عن الكرسيِّ.. وانتهتِ المشكلةُ.
وانبعثَ الأملُ في داخلي من جديدٍ .. انتهتِ المشكلةُ، وسأعودُ لخيالاتي وأحلامي.
لكنَّ صاحبَ الشَّنبِ الكثيفِ، عنصرَ المُخابراتِ، زَعَقَ كالحيوانِ:
- بلْ سينهضُ غصبًا عنه!.. وإلّا أفرغتُ المسدسَ في صلعته!
عاودتْني موجةُ التحدِّي.. شعرتُ بالإهانة، مع أني أتمنّى من كلِّ قلبي أن أُغادرَ هذه الحافلةَ، دون أن يُعيدوا إليّ نقودي، وسآخذُ تكسي وأعودُ للكراجِ لأصعدَ على حافلةٍ أخرى..
قلتُ في يأسٍ وأنا أتظاهرُ بالشجاعة:
- هيّا اقتلني.. ماذا تنتظر؟!.. لن أتركَ الكرسيَّ.
وصاحَ الجميعُ بصوتٍ مملوءٍ بالضيق:
- يا جماعة، صلُّوا على النبي.
وما كان من البغلِ الذي يُشهِرُ مسدَّسَه، إلّا أن ضربني بأخمصِ المسدَّسِ على رأسي، وهو يزأرُ كوحش:
- وحقِّ اللهِ، سأقتلك!
وصرختْ جوارحي بجنونٍ وقنوط:
- يا ربّ!.. أعطِنا حلًّا يُرضي الجميع!.. يا ربّ، لا أريدُ أن أموت!.. أريدُ أن أبقى وأعيش، وأكتب!.. سأكونُ كاتبًا عظيمًا، مثل نجيب محفوظ، ونزار قبّاني، ومحمود درويش، وزكريا تامر...
وفجأةً، ومثلَ انبعاثِ البرق، خطرَ لي أن أقول:
- إن كنتَ تظنُّ نفسَك رئيسَ مرافقةِ سيادةِ العميد (مصطفى التاجر)... فأنا ابنُ عَمَّةِ الرائد (طلال الأسعد).
وما إن أنهيتُ كلامي هذا، وأنا في غايةِ السوءِ والقلق، حتّى رفع مسدّسَهُ عني، وتطلَّعَ بي بِتَمَعُّن، وهتف:
- قول وحقِّ الله إنّك ابنُ عَمَّةِ سيادةِ الرائد طلال الأسعد!
وكان الرائد (طلال الأسعد) هذا، هو بالفعل قريبٌ لصديقٍ عزيزٍ على قلبي، ولا أعرف كيف تذكَّرتُهُ في هذا الوقتِ العصيب.. فقلت:
- نعم، أنا قريبُه، واليومَ ستلقاني عنده.
تراجع ذو الشنبِ الضخم، نظرَ إليّ باسماً، وهتفَ بفرحة:
- لك أبوس اللِّي خَلَق الرائد (طلال).. سيادتُه حبيبُ قلبي!
واقْتَرَبَ مِنِّي ليُحضِنَني، وتنهَمِرَ على رأسي ووجهي قُبُلاتُهُ الحارَّةُ والصَّادِقةُ.
وهكذا انتهتِ المشكلةُ.*
مصطفى الحاج حسين.