** ((دراسة نقدية لقصة: “حتى الآن” للشاعر والقاص مصطفى الحاج حسين))..
بقلم:
(( خولة محمود عادل)).
قصة "حتى الآن" تدور في ظلّ نظام عسكري صارم، حيث يعاني البطل – المجند الذي هو شاعر أيضًا – من تضارب بين الانضباط العسكري وبين إحساسه بالذل والخضوع، من جهة، وآلامه النفسية والوجدانية من جهة أخرى. المفتاح الإداري (الصندوق) أصبح مركز صراع، ليس فقط لأنه يحتوي أمرًا مهمًا، بل لأنه رمز للسلطة، للقرار، وللخيانة المحتملة. تتوالى الأحداث بتصاعد من الخوف والانتظار إلى مواجهة شفوية، حيث يُفضح الانتهاك، يُثار الغضب، يُطلب الانتصاف، لكن النظام ذاته يعيد إنتاج القهر والذل حتى الآن.
العمود الزمني والمكاني: المعسكر—الخيمة—الرتبة العسكرية—أوامر العقيد—غياب المساعد الأول—الانتقام… كل ذلك يُنشئ مناخًا اختباريًا مكبوتًا.
- حوار الشخوص: الحوار بين الضابط والمجند متوتر جدًا، يتضمن اتهامًا، دفاعًا، تبريرًا، خيبة أمل، ذلًا فنيًا.
الذروة: تأتي حين يُفضح المجند المكيدة ويُكشف عن محاولة السلطة استخدام الخطأ الكتابي أو الإجراءات كبوابة للمعاقبة.
الرموز: الصندوق الإداري، حلاقة الشعر “على الزيرو”، البرقية المُكرّرة، كلها رموز تُحوّل التفاصيل البيروقراطية إلى أدوات قمع.
من النظرية ما بعد الكولونيالية/نظرية السلطة: كيف تُمارس السلطة على الجسد والمظهر، وكيف يصبح الشعر والكلمة مقاومة.
من نظرية التمثيل النفسي والشعر الاعترافي: البطل هو شاعر يتعرّض للذنب والإذلال، لكنه يريد أن يقول الحقيقة، أن يُثبت وجوده.
من نظرية استجواب اللغة: اللغة لا تُستخدم فقط كأداة للتعبير، بل كميدان صراع؛ كيف تُستخدم اللغة المكتوبة، البرقية، الخطأ الكتابي كذريعة للسلطة، كيف يُحكم على الإنسان بناءً على التواصل والخطاب.
يمكن ملاحظة تشابه مع قصة مثل “عرس الجراح” أو “المخيّمة” في أدب المنفى أو السجون؛ حيث تُستخدم التفاصيل اليومية للتحقيق في الكرامة الإنسانية.
أيضًا، تشبهها في الموضوعات قصص *غسّان كنفاني" في موضوع الاحتلال والكبت، حيث الفرد ينهار أمام آلة القمع، ولكن يقاوم بالكلمة.
- أما عالميًا، فربما يُقارن بـ "سِولِس" (V. S. Naipaul) أو "جوزيب كونسول" أو كتاب السجون، حيث التفاصيل الدقيقة تُحوّل إلى شهادات للحالة الإنسانية.
الكاتب وموقعه الإبداعي
مصطفى الحاج حسين يجمع بين الشعر والرواية والقصة، وقد أثبت براعته في تحويل شعور مختبئ إلى نصوص تعبّر عن خيبة الوطن، خيبة الأصدقاء، خيبة الذات.
قدرته على استخدام تفاصيل بسيطة – “حلاقة الشعر”، “فتح الصندوق” – لتحويلها إلى رموز كبرى تعكس السياسة والسلطة والهوية تجعله بارزًا بين كتاب جيله.
في سياق قصيدة النثر، في أدب القصص، يُظهِر تجربة تجمع بين الصدق الفني والحساسيّة، بين القسوة والألم العميق، وبين رغبة في تحقيق أثري.
القصة ليست فقط عن انتقام مساعد أول، بل عن الإنسان الذي لا يُسمَع فيه إلا بأخطائه، عن الكرامة التي تُنتزع حتى الآن.
الفحوى: إن الكرامة الإنسانية ليست مفروضة بقوة القانون فحسب، لكنها تُحاسب بالمعايير الأخلاقية واللغوية الصغيرة.
الهدف المحتمل: التنبيه إلى أن السلطة تمارس قهرها ليس فقط بالأسلحة، بل بالكلام، بالشكل، بالتحقير الإداري، بالمظاهر، كما أنها إن لم تُقاوم بالكلمة تبقى آلة ظلم صامتة.
القصة تُبرز أن(حتى الآن) ليست فقط ظرفًا زمانيًا، بل رمز للمقاومة الصامتة، لرفض القمع ولو في التفاصيل اليومية.
- تُثبت هشاشة الإنسان أمام السلطة مهما حاول أن يكون مخلصًا، أن التغيير لا يحدث فقط بتطبيق الأوامر، بل بتفعيل الضمير والكلمة.
تُظهر أن الأدب لا يكتفي بتوثيق المعاناة، بل بنحتها في لغة، شكل، سرد، لتبقى ذاكرة حيّة.
مقارنة مع كتاب عرب: يجمع بين مرارة "غسان كنفاني" في وصف الاحتلال، وبين تجربة حكاية الجندي التي في بعض أدب السجون والاعتقال وأدب المقاومة العربي الذي كان يركّز أحيانًا على رموز كبيرة؛ هنا التركيز على التفاصيل اليومية يُشبه أسلوب كتاب مثل "ميخائيل نعيمة" أو "جبران" في دقّة المخابر النفسية.
قصة “حتى الآن” هي قصة عن الصمت القسري، عن الخطأ الصغير الذي يُصبح ذنبًا كبيرًا، عن السلطة التي تُستخدم حتى في أخلاق اللغة، عن الهوية التي تُعطرها الكلمات. مصطفى الحاج حسين لا يكتب ليُونس، بل ليُوقظ، لا ليُطمئن، بل ليكشف أن “الآن” لا يزال قيد التشكل.
النهاية المفتوحة: القصة لا تُغلق بمحصِّلة كاملة، بل تترك القارئ أمام سؤال “حتى الآن”، ما الذي تغيّر؟ هل انتهى القمع؟ هل وُجد العدالة؟ “حتى الآن” تعني أن الزمن لا يزال مستمرًا في ابتلاع الكرامة.
الخوف من السلطة: المجند يعيش في رهاب دائم من العقوبة، من أن يُهان أمام الملأ، من أن يُجلد، من أن يحلق شعره، من أن يُستخدم “الخطأ” ذريعة لقهره.
الذنب والمبارَاة: بقدر ما يشعر بأنه فعل ما ينبغي (فتح الصندوق في إطار لجنة، تنفيذ أوامر)، يشعر بوزر الخطأ المتكرر، بالبرقية المكرّرة، كأن الخطأ الإداري يصبح جزاءً عاطفيًا.
الهوية المزدوجة: شاعر في معسكر، مجند يُخاطر بالكلمات، بالحقيقة، ليس فقط بالسمع والطنطنة، ولكنه يدفع ثمن النطق. صراعه هو بين الواجب العسكري وبين صدق الذات الأدبي.
العدالة الأخلاقيةالمفقودة
الأخلاق هنا هي الحِمَية أكثر من القانون؛ الصراع ليس فقط قانونيًا بل أخلاقيًا: هل الغدر أخلاقي؟ هل الكذب الإداري أخلاقي؟
الأسلوب الفني واللغة
الفعل المضارع والتكرار: “قلت … زاد غضبه … صرخ … قلت …” تُستخدم الأفعال الحاضرة والمتعاقبة لإبقاء القصة في الآن، في الشعور، في الرهاب. الزمان لا يبتعد؛ المجند دائمًا تحت تهديد السلطة.
اللغة الحوارية اليومية لكن محمّلة: ليست لغة شاعرية مُصقولة فحسب، بل كلام جنود ومعسكرات، ولكن شاعر يستخدمها ليُخلّف الصدى. الحوار ليس فقط لنقل الأخبار بل لنقل الجرح الداخلي.*
خولة محمود عادل.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق