الرغباتُ تتصارع مع التأقلُمات،
تجدُنا نُريد لكن واقعنا لا يُريد،
تجدنا نسعى لكن واقعُنا يُحطم،
تجدنا نفرحُ لكن واقعنا يُبكي،
تجدنا مُترابطون كالبُنيانِ لكن واقعُنا يَهدم، نجدنا نحيا لكن واقعنا يَموت، لا أعرفُ لما ذكرت سابقًا كلمة "واقعنا" بكثرة!
هل لأجلِ التأكيدِ على قبحِ ذلك الواقع؟ أما لأننا لا نُطيقهُ من الأساس؟
حيرةٌ تعتريني، فؤادٌ يناجيني، عقلٌ يؤدبني، عيونٌ تبكي، و عودي كأنه قلمٌ كُسر من منتصفه.
لما يحدثُ ذلك كلما يتطرقُ عقلي لذكرِ كلمة الواقعِ، لما؟
هل لأني أهابُه، أم أكرههُ؟
رباه، عدتُ مجددًا أطرح الأسئلة، لا أعرف متى سوفَ أجيب على تلكَ الأسئلة، الأن أم غدًا؟ أو ربما في أسبوعٍ آخر، لا أعرف!
لكن ما أعرفهُ أني لن أجيب بعد منتصف الليل؛ لأنه ينتشر بؤس واقعنا في ذلك الوقت.
أجدُني عُدت لسنينٍ و لياليَّ مر عليها قرون، أبكي على دُميتي في سنِ الثالثة، أحزنُ لأجلِ المثلجات الذائبةِ في سن الحاديةَ عشر، رباه، لما أنا في ذلك الزمان؟
لما عدت لمرحلة الطفولة؟
رغم أني تجاوزت الثمانين عام.
الأن عرفتُ السببَ لأجل أحلامي و الرغباتِ التي تركتُها هناك، هذا حالي و حال الكثيرِ في بلادي، إن ثمنَ تواجدنا في هذا البلدِ هو أحلامنا، غاياتنا، طموحاتنا، و مشاعرنا حتى، للأسف إنه حالٌ يُرثى لها.
في سنِ الثامن عشرَ خسرتُ حلمي بأن أصبحَ طيارًا، لأني ابن قريةٍ فقيرة لا تملكُ ثمن رغيفِ الخُبز حتى، كيف يُمكنها أن تمتلكَ مالًا لأجل دراستي في بلادٍ بعيدةٍ يدَّرِسون فيها حلمي.
في سنِ الخامسة و العشرون، حضرتُ زفافَ قريبُنا الذي تزوج حبيبتي !
أصابتكُم دهشةٌ صحيح؟
هذا ما يحدثُ مع الفقراءِ في وسطِ مجتمعٍ قائمٍ على العاداتِ و التقاليد، و على مهورٍ باهظة، كأنهم يبيعون قطعة أثاثٍ لا يزوجون ابنتهم.
في سن الخمسين خسرتُ صحتي و عافيَتي، نسيتُ أن أخبركم أني مصابٌ بالخرفِ.
لا تتعجبوا إني أتذكرُ ما ذكرته لكم، لأن كل ذلكَ في جوفِ فؤادي لا عقلي المصابِ بالخرف.
دُميتي التي حدثتُكم عنها كانت من والدي الذي مات وأنا ابن تسعِ أشهر، المثلجاتُ كانت من أعز أصدقائي،
حُلمي كان حلمَ والدي أيضًا،
حبيبتي و الله ما غادرت فؤادي يومًا، رُغم أني تزوجتُ بغيرها لأكملَ حياتي و لأجلِ أن ترى أمي أحفادها.
أحبُ هذا المرض "الخرف"؛ لأنه يسمحُ لي بذكرِ حبيبتي متى ما شئتُ و أين ما شئتُ و كيف ما شئتُ، أسمعُهم يقولون، اتركوهُ إنه رجل مصابٌ بداءِ الخرف.
لو صلحَ واقعنا ما فائدةُ ذلك؟
هل سوف يعيدُ لي والدي، حبيبتي، و حلمي؟
بالطبعِ لا قد فاتَ الأوان حقًا، قد كسى الشيبُ رأسي و أنا أنتظر، لا أعرف في أي لحظةٍ ربما يُداهمني الموت.
أأُخبركم بِسر بسيط لا تخبروا أحدًا به؟ خصوصًا زوجتي إنها امرأةٌ صالحة، أتمنى لو أرى حبيبتي قبل وفاتي لو لمرةٍ واحدة، هذا الشيء الوحيد الذي أبقى أتمناهُ حتى لو أن الأوان قد فات حقًا.
يبدو ذلك لأن الحبَ مميزٌ لا يحتلُ مكانه شيءٌ، نبقى نريدهُ لو مر على ذلك الحب عقودٌ و قرون.
عن ماذا كنتُ أتحدثُ سابقًا؟
أخبروني.
سوف أقرأُ ما كتبت، لعلي أتذكر عن ماذا كنت أتحدث.
ربما قرأتُ ثمانيةً و عشرون ورقة، أو أكثر؛ لكن وجدتُ أخيرًا ورقة تحمل عنوان "ماذا لو جاءَ بعد فواتِ الأوان".
بعد قرائتي للعنوانِ قررت أن أخبركم عن سري الثمين، الذي لم أخبر به احد من قبل، هو حبيبتي التي تحمل اسم "وردة" أحبها جدًا، إنها أجمل ورودِ بقاع العالم، ربما فات الأوان من منظورِ الزمان؛ لكن لم، و لن يفوتَ الأوان لمَلقاها، لأنه عند لُقياها يبدأ عمري.
رباهُ من ذلكَ الطفل الصغير؟
إنه يقولُ أني جده.
هل تزوجتُ أنا وردة ؟
كم حفيدًا لدي غير ذلكَ الطفل؟
صحيحٌ، كنت أخبركم عن ذلك العنوان في تلك الصفحةِ العتيقة، أنا أعلم أنه هناكَ أمور لو حدثت بعد فوات الأوان، تحملُ أحاسيسَ باردة، باهتة، و خالية من الحيوية.
أيضًا هناكَ أمورٌ تبقى مصاحبة بهجتها لو حدثت بعد زمن، مثل الحب، و الأحلام.
لا أعرف من سوف يقرأُ لوالدي الكاتب محمدَ الذي توفاهُ الله ليلة الخميسِ السابق ، أطلب العفو منكم عن أي شيءٍ مُكَرر.